احكام المتاجر المحرمه

اشارة

نام كتاب: احكام المتاجر المحرمة

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، مهدى

ناشر: مؤسسه كاشف الغطاء .نجف اشرف- عراق

تاريخ وفات مؤلف: 1298 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 1

تاريخ نشر: 1423 ه ق

نوبت چاپ: اول

مقدّمه

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله السميع العليم، و صلى الله على محمد ذي الخلق العظيم، و على آله الهداة الى الصراط المستقيم، و بعد:

إن العلماء جبال رواسٍ على الأرض، و كتبهم منائر للناس تنير لهم السبيل، و طبعُ كتاب مخطوط لأحد هؤلاء العلماء العظام إضاءة لمنار من هذه المنارات، و هذا كتاب للشيخ مهدي كاشف الغطاء (قُدّسَ سرُّه) يطبع ليزيد من سطوع نور العلم.

موضوع هذا الكتاب هو بعض أنواع المعاملات المحرمة، و قد درس المصنف (رحمه الله) أدلة هذه المعاملات للوصول الى أحكامها، فهو بحث استدلالي في باب واحد من أبواب الفقه و هو باب المكاسب المحرمة، و من قراءتي لمقدمة المصنف عرفتُ أنه لم يضع عنواناً لهذا الكتاب لكنني سأختار له عنواناً من عبارة وردت في مقدمته كي لا أخرج عما كان يدور في ذهن المصنف، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، و العنوان هو (أحكام المتاجر المحرمة) علماً أن العبارة الواردة في المقدمة هي (أحكام المتاجر) فقط، و أضفت كلمة (المحرمة) التي يقتضيها حصر الموضوع، لأن الظاهر أن المصنف أراد أن يكتب في الأبواب الأخرى من المعاملات، و لكن العمر لم يسعفه على ذلك، فانه كتب هذا الكتاب في أواخر عمره الشريف، فهو حين يذكر الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المواضع الأولى من الكتاب بقوله (سلمه الله) و هذا ظاهر في أن الشيخ الأنصاري لا يزال حيّاً في ذلك الوقت، و في المواضع الأخيرة من الكتاب يقول (رحمه الله) و هذا ظاهر

ص: 3

في أنه توفي في ذلك الوقت، علماً أن الشيخ الأنصاري توفي سنة 1281 ه، و توفي المصنف بعده بثماني سنوات أي في سنه 1289 ه.

يُبتلى الناس بالأحكام المدروسة في هذا الكتاب، و بعبارة حديثة أن موضوعه عملي يتعرض له أكثر الناس في حياتهم اليومية، و هذا أحد الأسباب التي دعتني الى الاهتمام بتحقيقه بعد ما أعطاني مخطوطته الشيخ الدكتور عباس كاشف الغطاء متفضلًا لخدمة الدين و العلم حين كنت أبحث عن مخطوطة نحوية في مكتبتهم، و كلما زدت معرفةً بالكتاب زاد تعلقي به لسبب آخر هو عبارة الشيخ العربية الجميلة السلسة حيث أن المصنف شاعر يعرف اللغة و جمالها بحيث تطيعه الألفاظ متى أمرها.

أما منهج الكتاب فلا يخرج عن المناهج المتبعة عند الفقهاء عموماً في الكتب الاستدلالية في عصره و هو عصر الشيخ الأنصاري و الشيخ الجواهري (قدس سرهما) و هذا المنهج معروف بالاستطراد في البحث من أجل استيعاب الموضوع من جوانبه جميعها، و هذا هو ديدن التطور العلمي في أنه يجرب كل ما يمكن أن يوصله الى نتيجة تزيد الحياة تكاملًا نحو النظام الأحسن، و تبحث أموراً جديدة لم تكن مطروقة من قبل، فمثلًا كان الفقه يهتم كثيراً بالمياه لقلتها، أما الآن فان ذلك الاهتمام أقل لكثرتها في حياة الناس، فالفقه يتكيف مع الزمن و لكن وفق ضوابط الشرع، و قد زاد الاهتمام الآن بالتجارة مثلًا لأن الزمان زمان البورصات.

و فيما يخص وصف مخطوطة كتابنا التي يظهر أنها وحيدة، فقد تحريت على نحو عاجل عن إمكان وجود نسخة أخرى أقابلها بها لتصحيحها وسد نواقصها و لكنني لم أجد ما يشير الى وجودها في ما تحت يدي. و هي واضحة الخط، و معدل السطور في كل صفحة فيها تسعة عشر سطراً و معدل الكلمات في السطر الواحد سبع عشرة كلمة، و الظاهر أنها نسخت في حياة المصنف، و ذلك واضح من صفحة العنوان فان الناسخ أستعمل مع والد الشيخ وجده (قدس سرهما) كلمة الترحم و دعا لهما دعاء المتوفين، و لم يذكر ذلك عن الشيخ نفسه، و كتب بعض التملكات في هذه الصفحة.

أما اسم الناسخ و سنة النسخ فمجهولان، و الناسخ كثير الإسقاط لكلمات و عبارات، لا بل لجمل و أحياناً لأسطر من مادة المخطوطة، و قد تلافيت ذلك في أغلب

ص: 4

مواضع الأسقاط، إما من سياق العبارة فأضفت الكلمة الساقطة حسب حاجة المعنى أو من المصادر التي راجعها المصنف، و قد حصرت الإضافة بين معقوفتين للإشارة الى اضافتها الى المخطوطة.

تحسين غازي عبد الأمير البلداوي

ص: 5

نبذة من حياة الشيخ مهدي الغطاء

اسمه و نسبه

هو الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ الكبير جعفر كاشف الغطاء النجفي، و الشيخ جعفر هو أبو العائلة المعروفة في النجف الأشرف.

ولادته

ولد في النجف الأشرف سنة 1226 ه.

مكانته

كان الشيخ مهدي من العلماء الكبار في عصره بشهادة كل من ترجم له، فقال عنه في أعيان الشيعة (العالم الأديب، أحد أعيان فقهاء عصره و رؤسائه من فقهاء العرب المعدودين في عصره) (1) و قد كان الشيخ مرتضى الأنصاري يجله و يعتمد عليه في أمور الدين كما ورد في معارف الرجال حيث قال: و كان الأنصاري (قُدّسَ سرُّه) يعظمه و يقدمه في كثير من الأمور الشرعية و العرفية التي تعود الى فضلاء العرب، و صار المدرس الأوحد في الفقه و الأصول، عاصر فطاحل العلماء، و له الأظهرية في الرئاسة على معاصريه، كفقيه العراق الشيخ راضي، و الأستاذ الشيخ محمد حسين الكاظمي و الشيخ ملا علي الخليلي و السيد حسين الكوهكمري و نظراؤهم، و قد رجع اليه المسلمون في التقليد في قفقازية و أهم مدن ايران مثل طهران و أصفهان و تبريز و بعض مدن العراق كما رجع اليه جملة من سواد العراق (2).

و كان من الفقهاء المقدمين بعد وفاة الشيخ الأنصاري، قال في ماضي النجف و حاضرها: (من عظماء هذه الأسرة و المراجع الكبار، قال في التكملة: عالم فاضل فقيه كامل محقق أستاذ كبير شيخ النجف على الاطلاق بل شيخ العراق بل شيخ الدنيا،


1- السيد محسن الامين، اعيان الشيعة، 48/ 151.
2- الشيخ حرز الدين، معارف الرجال، 3/ 96.

ص: 6

انتهت اليه الرئاسة الجعفرية بعد الشيخ الأنصاري، و كان المرجع العام في الدين لأكثر الأقطار الشيعية (1).

و مما قيل في أسلوبه و منطقه مما تأكد لي في تحقيقي لكتابه هذا أنه حسن المحاضرة طلق اللسان عذب المنطق جيد التقرير في البحث و تحرير الدرس، تراه كالسيل العرم يتحدر في تقرير مطالبه من غير استعانة بلفظ أو كلمة و كأن الفقه كله كلمة واحدة في قبضته.

و كان الشيخ (رحمه الله) ممن يجيزون في الرواية عنه، فطلاب العلم يقصدونه من جميع الأنحاء طلباً لعلمه، و مما أطلعت عليه من هذه الإجازات إجازته للشيخ عبد الغني الخراساني.

و كان (رحمه الله) يقرض الشعر، و كان أديباً شاعراً بليغاً منطقياً جهوري الصوت، عاصرناه، له مداعبات شعرية مع الشاعر الأديب عبد الباقي العمري و رفقائهم في دارهم بالنجف (2) مثل قوله في مجي ء الشاعر الى النجف:

قل لمن ينظم القريضَ مجيدا أنت عبدُ لعبد عبد الباقي (3)

و من لطائفه الشعرية هذان البيتان له على لسان خادم لهم يطلب وصاية من أخيه الشيخ حسن (رحمه الله):

عبدٌ الحميد أتاك يرجو كسوةً و لكم كسوتَ سواه عبداً عاريا و الفور (أحوط) في امتثال أوامري فأنزع قميصك لا تكن متوانيا (4)


1- الشيخ آل محبوبة، ماضي النجف و حاضرها، 3/ 205.
2- الشيخ حرز الدين، معارف الرجال، 96.
3- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 48/ 151.
4- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الطبقات العنبرية، 402.

ص: 7

أساتذته

درس في أول أمره على الشيخ أحمد الدجيلي ثمّ على والده الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء و عمه الشيخ حسن و أخيه الشيخ محمد و هو يروي بالإجازة عن أبيه و عمه و الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر.

تلامذته

و هم كُثُر منهم الشيخ حسن المامقاني و السيد اسماعيل الصدر و الشيخ فضل الله النوري و الشيخ عبد الله المازندراني و الشيخ جواد الرشتي و السيد محمد كاظم اليزدي و الشيخ اسماعيل التنكابني.

و يروي عنه بالإجازة السيد محمد هاشم الجهارسوقي و السيد محمد رضا بن مير الكاشاني و الشيخ ملا علي القره داغي و الشيخ علي الطياري التبريزي و الميرزا بهاء الدين بن نظام الدولة.

و من معاصريه الشيخ مرتضى الأنصاري و الشيخ راضي النجفي و الشيخ محمد حسين الكاظمي و السيد حسين الترك و الحاج ملا علي الخليلي و الشيخ جواد نجف.

آثاره

مدرسته المعروفة باسمه (المهدية) و هي الموجودة خلف جامع الشيخ الطوسي الى اليوم، و مثلها في كربلاء شمال الصحن الحسيني الشريف، و قد أوقف لها خاناً يصرف ريعه عليها، و تعمير مقبرة جده الشيخ جعفر و قبور أعمامه و والده و بنى عليهم قباباً.

مؤلفاته

له كتاب في البيع و آخر في الخيارات و هو شرح على الشرائع و رسالة عملية و رسالة في الصوم و كتاب في المكاسب المحرمة الى حرمة التكسب بالغش، و هو الكتاب الذي نحن في صدد إخراجه.

أولاده

أعقب أربعة أولاد أكبرهم الشيخ صالح و الأديب الشيخ أمين و الشيخ عبد المولى و أمهم علوية، و الشيخ موسى و أمه تبريزية.

ص: 8

وفاته

توفي الشيخ في النجف الأشرف ليلة الثلاثاء 24 من شهر صفر سنة 1289 ه، و دفن في مقبرتهم، و في مستدرك سفينة البحار أنه توفي في سنة 1288 ه.

و قد رثاه الشعراء الذين منهم الشيخ جواد محي الدين في قصيدة منها:

علامَ بنو العليا تطأطئ هامها أ هلْ فقدت بالرغم منها إمامها نعم غالها صرف المنون بفادح عراها فأشجى شيخها و غلامها

و من قصيدة الشيخ أحمد قفطان:

سهم رمى كبد الهدى فأصابا مذ قيل مهديّ الخليقة غابا نبأ به صكّ النعيّ مسامعي فأصمها حيث النعي أهابا (1)

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و صلى الله على خير خلقه محمد و آله الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم و مبغضيهم من الأولين و الآخرين الى يوم الدين، اما بعد:

فقد سألني جمعٌ من العلماء العاملين، و طائفة من الفضلاء المحققين، حال قراءتهم عليّ بعض احكام المتاجر، بأنْ أكتب ما يخطر بالبال، و يجري في مرات الخيال، من أحكام المتاجر، فشرعت في هذا الكتاب راجيا من الكريم المتعال أن يجعله ذخرا ليوم فاقتي، حيث لا ينفع مال و لا بنون، و على الله التّكلان، و به المستعان، و هو حسبي و نعم الوكيل.


1- أنظر أعيان الشيعة و معارف الرجال و ماضي النجف و حاضرها.

ص: 9

كتاب التجارة

التجارة لغةً و مفهوماً

التجارة تطلق على معانٍ اربعة:

أحدها: ملكة المعاوضة و المعاملة بقصد الاكتساب كسائر الفاظ الصنائع، كالحياكة و الصياغة و التجارة و غيرها. فان معاني هذه الالفاظ ملكاتُ هذه الافعال كما يشهد به العرف و استقراء موارد الاستعمال.

ثانيها: عقْد المعاوضة بقصد الاكتساب، و هو الذي عرّفها به الاصحاب في باب زكاة مال التجارة، و هو عام لجميع عقود المعاوضات، من غير فرق بين البيع و غيره، و خاص بصورة قصد الاكتساب، فتخرج عنه المعاوضة بقصد الادّخار و القوت و نحو ذلك من دون استرباح و اكتساب.

ثالثها: عقد المعاوضة بيعا كان أو غيره، بقصد الاكتساب و بدونه.

رابعها: خصوص البيع و يشهد لذلك استقراء العرف، يقال: تَجَر تجارة إذا باع و اشترى فهذه معانٍ أربعة.

و المهم بيان المراد من التجارة في هذا الباب، فأقول: لا يمكن إرادة المعنى الاول هنا لأمور:

احدها: ان التجارة من جزئيات موضوع الفقه، فهي كسائر الابواب التي هي من جزئيات موضوع الفقه، و هو الافعال، و الملكة مما لا يُبحَثُ عن حكمها في الفقه كمالا يخفى:

ثانيها: إن ما ذكروه من التقسيم إنما ينطبق على الافعال لا على الملكة، إذ الملكة بالنظر الى المعاملة بهذه الاقسام المذكورة للموضوع على حد سواء، فلا يترتَّب عليه هذه الاحكام:

ثالثها: إن ما ذكِر من الاحكام في الاقسام أعمّ من أن يكون ممّن له ملكة أو لا، فلو سلّمنا جواز إرادة معنى الملكة قلنا بتأويله على أن المراد (كتاب بيان الاعيان التي يكتسب بها صاحب الملكة) فهو مع كونه تكلُّفا زائدا خارجا عن اسلوب الكلام،

ص: 10

يستلزم كون العنوان أخصّ من المعنون، و التزامُ الاستطراد في اكتساب غير ذي الملكة بعيدٌ كلَّ البعْدِ.

و لا يمكن إرادة المعنى الثاني هنا أيضاً و ان فسّرها به جمع من أصحابنا، بل ربما أشعرتْ عبارة كل من أبدل العنوان بالمكاسب أو عبّر كعبارة الشرائع حيث قال: (الاول: في ما يَكتسب به) (1) لأمور:

أحدها: ظهور التقسيم، و كلام الاصحاب في تعميم التجارة هنا بالنظر الى قصد الاكتساب و عدمه كما عن المحقق الثاني (2) التصريح به:

ثانيها: إن عقد المعاوضة بقصد الاكتساب يعم جميع العقود و المعاوضات، فجَعْلُ التجارة كتابا في مقابلة سائر المعاوضات ركيكٌ جدا، و ادراج البيع فيه دون غيره خال من الوجه قطعا. نعم لو أُفرد البيع عن المكاسب اندفع هذا الايراد، و من هنا كان المحكيّ عن صريح الروضة (3) و المحقق الثاني في شرح القواعد (4) أن إفراد البيع أولى.

ثالثها: إن حمل التجارة على هذا المعنى مما لا ينطق على المباحث الآتية، إذ موضوعها أعم من ذلك قطعا، فهو مما يستلزم كون العنوان أخص من المعنون، و التزام الاستطراد في ذلك كما ترى.

و لا يمكن إرادة المعنى الثالث، لأنه و ان سلِم من الأخصّية بالنظر الى المعنون، لكنه شامل لجميع المعاوضات، فلا يناسب المقابلة معها.

و أما المعنى الرابع: فقد صرّح بعض المتأخرين بحمل التجارة عليه هنا، و قال المراد: كتاب التجارة، أي كتاب البيع، و يشهد لهذا المعنى قولهم: تاجَرَ فلان، أي باع و اشترى، و هو مما لا باس به، إذ هو المناسب لإفراد ما عداه بكتب مستقلة، لأنّه مباين لها حق المباينة. نعم يبقى ذكر أنواع المكاسب من جملة فصول البيع مما لا وجه له، و كان اللائق إفرادها بكتابٍ مستقلا، و لكنها لمّا كانت قليلة المسائل لم يناسب إفرادها


1- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، 2/ 261.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 5.
3- الشهيد الاول، الروضة البهية، 3/ 206.
4- المحقق الكركي، جامع المقاصد 4/ 5.

ص: 11

بكتاب مستقل، فلزم إدراجها في طيّ أفراد المكاسب، و لما كان البيع أظهر أفرادها، و أغلبها وقوعا و استعمالا أدرجها في طيّ مسائله، لانه أولى من تفريعها على الابواب، أو ذكرها في باب مستقبل أو ذكرها في غيره. قال في الجواهر: (و هو و إن كان قد يشهد له إفراد غير البيع من اقسام المعاوضات بكتب مستقلة (لكن) (1) يبعّده معروفية كونها أعم من ذلك، و ذكرُ (2) كثيرٍ من احكام التكسب و ما يكتسب به و نحوها مما لا مدخلية له في البيع، و لذلك قلنا يكون المراد منها مطلق المعاوضة، و عدم إفراد البيع بكتاب بخلاف غيره من أفرادها لشدة تعلقه بها و غلبته فيها (3) انتهى. و هو كما ترى إذ معروفية التجارة بما يعم البيع لا ينافي إرادة خصوص البيع فيها هنا لما سمعت من القرينة، و ذكرُ ما لا مدخلية له في البيع قد عرفت المناسبة فيه.

أقسام التجارة

و كيف كان، فتنقسم التجارة بمعنى الاكتساب الى الاحكام الخمسة:

الحرمة، و الكراهة، و الوجوب، و الاباحة، و الاستحباب، و لا ينافي ذلك ما في الشرائع حيث قال: الاول فيما يكتسب به، و ينقسم الى: محرم، و مكروه، و مباح (4).

أنّ الضمير في ينقسم إما راجع الى الاكتساب المأخوذ في ضمن يكتسب على حد قوله: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ) (5)، أو الى نفس ما يكتسب به، و على الاول فلا إشكال لأن الاكتساب من افعال المكلف التي هي موضوع الفقه المبحوث عنها من حيث الاقتضاء و التخيير و الوضع. و على الثاني يشكل الحال ضرورة ان العين المكتسب بها مما لا تتعلق بها الاحكام إلا باعتبار فعل المكلف، فهي من حيث الذات لا تتصف بوجوب و لا كراهة و لا حرمة و لا إباحة و لا استحباب. و قد يُدفع الاشكالُ بانّ اتصاف العين باحد الاحكام انما يكون باعتبار تعلق فعل المكلف بها أيضا، فهي في حد ذاتها


1- ما بين المعقوفتين إضافة من الجواهر.
2- وردت في الأصل (و ذلك) و التصحيح من الجواهر.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 6.
4- المحقق الحلي، شرائع الاسلام 2/ 261.
5- المائدة/ 8.

ص: 12

لا تنقسم الى هذه الاقسام و لا تتصف بهذه الاحكام، و لكنها قد تتصف و تنقسم باعتبار تعلق فعل المكلف بها أيضاً، و هو المقصود هنا، فيكون نظر المحقق (1) (رحمه الله) في تثليث القسمة انما هو انقسام الاكتساب باعتبار الموضوع كما يرشد الى ذلك جعل الضمير راجعا الى ما يكتسب به.

و الظاهر أن الاقسام باعتبار الموضوع ثلاثة لا غير، فلا ينافي ذلك انقسام مطلق الاكتساب كما صنعه جماعة منهم العلامة في القواعد، و جعلوا من أقسام الواجب ما يحتاج اليه الانسان لقوته و قوت عياله (2) الواجبي النفقة، و من المندوب ما يقصد به التوسع على العيال او نفع المحاويج مع حصول قدر الحاجة بغيره (3) إذا لم ينافِ شيئا من الواجبات، إذ نظرهم إلى أنّ الاكتساب من جملة موضوع الفقه الذي تتعلق به الاحكام الخمسة، سواء كان الحكم ناشئا من خصوص الموضوع أو من غيره.

و نظر من ثلّث القسمة الى الحكم الناشئ من خصوصِ الموضوع، و يشير الى ذلك جعل الضمير في عبارة المحقق راجعا الى ما يكتسب به و جعل المقسم موضوع التجارة في عبارة غيره. و الظاهر أن الأحكام التي تنشأ من الموضوع خصوص الثلاثة المذكورة، لان الواجب الذي مثّلوا به لا يتعلق بخصوص عين خاصة، و إنما يجب الاكتساب لتحصيل القوت من غير فرق بين الأعيان، فليس ذلك كالمحرم من التجارة و كذلك المستحب، فإنه لا يتعلق بعين خاصة بحيث يستحب التكسب بها بخصوصها، و إنما المستحب الاكتساب بأي عين كانت لنفع المحاويج، فحينئذٍ لا منافاة بين كلام من ثلّث القسمة و خمسها.

فإن قلت: أن العين من حيث هي لا يتعلق بها شي ء من الاحكام كما ذكرت و انما يتعلق بها الحكم من حيث فعل المكلف من غير فرق بين الوجوب و الاستحباب و غيرهما. فشراء المكلف إذا تعلق بعين من الاعيان لقوت نفسه عند الحاجة كان واجبا، فتتصف تلك العين بالوجوب باعتبار وجوب فعل المكلف المتعلق


1- المحقق المحلي، شرائع الاسلام، 2/ 261.
2- العلامة الحلي، قواعد الاحكام، 2/ 5.
3- المصدر نفسه، 2/ 5.

ص: 13

بها، و كذلك المندوب فلا وجه لتثليث القسمة. قلت: و إن كان المتصف بالحكم هو فعل المكلف و العين من حيث هي لا تتصف بشي ء من الحكام، و لكن الحكم مرة ينشأ من نفس الموضوع كحرمة بيع الخمر و كراهة بيع الاكفان، فانَّ الحرمة و الكراهة إنما تنشأ من الخمر و الكفن، و مرة ينشأ الحكم من عموم الخطاب بتحصيل النفقة كشراء الثياب للعيال عند الاحتياج اليها، فانّ وجوب الشراء لم ينشأ من الثياب، و أنما نشأ من عموم الخطاب بوجوب تحصيل النفقة و الكسوة لواجبي النفقة، و الفرق بين الامرين واضح.

فإن قلت: على تقدير كون المناط هو الحكم الناشئ عن ذات الموضوع لا وجه لتثليث القسمة أيضا، لأن ذات الموضوع قد تكون منشأ لوجوب الاكتساب كما تكون منشأ لتحريمه، و كذلك قد تكون منشأ للاستحباب، و ذلك كعمل الصنائع التي هي من الواجبات الكفائية فان وجوبها كفاية مع وجود مَنْ به الكفاية و التعدد، وعينا عند الانحصار إنما نشأ من نفس تلك الاعيان التي تعلق بها العمل و الصنعة، لان احتياج الناس الى المنازل و البيوت لموقوفة على الحدادة و النجارة و البناء هو الذي اوجب هذه الاعمال. فوجوب هذه الاعمال أنما نشأ من موضوعاتها التي تتعلق بها هذه الاعمال و تدعو اليها، و يمكن فرضها بعنوان الاستحباب كما في صورة قيام من به الكفاية مع دفع الحاجة بحسبها و استحباب مباشرتها لشخص آخر للتوسعة على الناس في أمور معاشهم فلا وجه لتثليث القسمة.

قلت: الظاهر ان هذه الصنائع سواء فرضت واجبة او مندوبة، لم ينشأ حكمها من الاعيان التي تعلقت بها هذه الاعمال بل انما نشأ من عموم وجوب دفع حاجة الناس و حفظ النظام، و ليست خصوص العين المحتاج اليها عند الناس منشأ لوجوب هذه الاعمال بل الموجب هو الحاجةُ و الادلةُ الدالة على وجوب دفعها عن الناس حفظا للنظام. و لو فرض ان هذه الاحكام انما نشأت من الاعيان فلا حاجة الى التمثيل بالصنائع، بل المعاوضةُ لقوت العيال أيضا كذلك، فان حاجة العيال الى الطعام و إلى الخبز بالخصوص دعت الى وجوب شراء الطعام و الخبز، فيكون الوجوب ناشئا من الطعام و الخبز، و هو كما ترى و على كل حال فلتثليث القسمة وجه، و تخميسها بالاعتبار الذي ذكرناه أٰوجُه و الامر في ذلك سهل، إنما الاشكال في عدّ المباح من جملة

ص: 14

أقسام التجارة، مع أن المباح في الاصطلاح هو ما تساوى طرفاه ذاتا من دون رجحان و لا مرجوحيةَ في الذات. و ما كان في ذاته راجحا او مرجوحا خرج عن كونه مباحا اصطلاحا و ان كان متساوي الطرفين من حيث العوارض الخارجية.

و المفروض أن التجارة مما تضافرت الاخبار الواردة عن الائمة الاطهار، و انعقد الاجماع قديما و حديثا على انها من المستحبات المؤكدة و الاعمال الممدوحة، فحيث لا تكون محرمة و لا مكروهة فهي مستحبة، فلا معنى لعد المباح من اقسامها، و يمكن التخلص عن هذا الاشكال بوجوه:

أحدها: حمل كلامهم هنا في عدّ المباح من اقسام التجارة على الإعراض عن تلك الأخبار الدالة على استحباب التجارة و عدم تلقيها بالقبول و عدم الاعتناء بشأنها و إن تكثّرتْ و تضافرت، و هو كما ترى؛ إذ الاعراض عن تلك الاخبار و عدم الالتفات اليها انما يكون مستحسنا حيث ينعقد الاجماع على ذلك، و إلّا فهي صحيحة سليمة عن المعارض صريحة في المطلوب، فكيف و الاجماع منعقد على العمل بتلك الاخبار قديما و حديثا كما سمعت.

ثانيها: حمل المباح في كلامهم على ما كان رجحانه أنقص بالنسبة الى رجحان غيره لا على المباح المصطلح الذي يتساوى طرفاه ذاتاً. فالمباح ما نقص رجحانه عن غيره و ان كان راجحا بحسب ذاته.

و فيه أنه إنما يتوجه على تقدير تخميس القسمة، لان في الاقسام الواجب و المستحب و هما راجحان، فيكون المباح ما نقص رجحانه عن رجحانهما. و أما على تثليث القسمة و جعل اقسام التجارة منحصرة في المحرم و المكروه و المباح، فليس في اقسام التجارة راجح، حتى يجعل المباح ما نقص رجحانه عنه، فلا يتجه هذا الوجه في تثليث القسمة و جعل المقسم التجارة من حيثية الموضوع كما لا يخفى. نعم على تخميس القسمة و جعل المقسم التجارةَ من حيث الاكتساب يمكن هذا الوجه، مع انّ من ثلّث القسمة جَعَل المباح من أقسام التجارة.

ثالثها: حمل المباح في كلامهم على المستحب المعارض بمثله مع عدم المرجّح لأحدهما، و ذلك كما لو عارض التجارة مستحب آخر مساوٍ لها في الرجحان فانّ

ص: 15

المكلف يتخيَّر حينئذٍ في فعل أي المستحبين، فيكون كل منهما متساوي الفعل و الترك حينئذ و إن كان راجحا في نفسه.

و فيه أنه خلاف ظاهر لفظ المباح و خلاف ظاهر الأصحاب، فحملُ المباحِ عليه في كلام الاصحاب مما لا معنى له، فالاولى في توجيه ذلك أنْ يقال: إنَّ نظر من ثلّث القسمة الى الاحكام الناشئة من نفس الموضوع. و لا إشكال و لا ريب ان التجارة المستحبة على ما في الاخبار هي البيع و الشراء و التكسب من غير دخل للتكسب بعين خاصة كالقماش و الحبوب و البقول و نحوها؛ لأٰنّ مناط الاستحباب هو عدم سؤال الناس و فتح باب الحاجة اليهم و القاء المؤنة عليهم، و هذا مما لا يختلف الحال فيه بين التكسب بالحنطة و الشعير أو القماش أو البقول أو غيرها. فالتكسب بالعين الخاصة مباح و إن كان التكسب- من حيث هو- مستحباً. و حيث كان نظر من ثلّث القسمة الى الأحكام الناشئة من نفس الموضوع، فلا شك في كون التكسب بغير الحنطة مباحا. فعدُّ المباح من اقسام التجارة من حيث هذه الحيثية مما لا بأس به فتبصّر.

على أنه يمكن أن يقال إن المتبادر من الأدلة الدالة على مستحبات التجارة هو القدر الذي يحصل به التوسعة على العيال، و يسد به باب الحاجة عن الناس و يستعين به على المستحبات و وجوه الخيرات و المبرّات، و هذا لا يستلزم انتفاء المباح إذ يمكن فرض التجارة على نحو لا يحصل به شي ء من ذلك كشراء شي ء لا يحتاج اليه الانسان، و انما شراؤه لمجرد التشهّي، و لا ريب أن هذه من المباحات بمقتضى الاطلاقات و العمومات و لا يدخل في عمومات استحباب التجارة و اطلاقاته. و على هذا تكون التجارة من المباحات ذاتاً.

و كيف كان، فإن قلنا باستحباب التجارة ذاتا فمكروها كمكروه العبادة، بمعنى اقلية الثواب و نحوه من معاني مكروه العبادة، و اطلاق المكروه عليه خلاف المصطلح كما لا يخفى. و إن قلنا بعدم استحبابها ذاتا فمكروهها كمكروه العبادات على نحو سائر المكروهات، ثمّ اعلمْ انه قد صرح المحقق الثاني (1) و الشهيد الثاني (2) بأن البحث للفقيه


1- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 6.
2- الشهيد الثاني، مسالك الافهام، 4/ 6.

ص: 16

في المعاملات بالذات من حيث الصحة و الفساد، و أما الحرمة و الوجوب فيترتب عليه العقاب و الثواب فلا ربط له بالمقام. نعم، بعض العقود له جهة عبادة ايضا فيصح ذلك هنا لهذا الاعتبار و قال في المسالك: لكن لا محذور في ذلك هنا استطراداً باعتبار اختلاف جهة المكاسب؛ فانها قد تكون عبادة من جهة (1) و معاملة و (معاوضة) (2) من أخرى، و كذا باقي العقود كالصلح (3) و الاجارة و مثله النكاح (4) انتهى. و هو حسن.

الكلام في ما يكتسب به

اشارة

و ينقسم الى: محرم و مكروه و مباح.

فالمحرم انواع:

[النوع الأول: الاعيان النجسة،]
و تنقيح المسألة يتوقف على بيان مقدمة، و مباحث.
اشارة

أما المقدمة ففي بيان قانون كلي: (و هو أن كل ما حرمت منافعه حرم الاكتساب به).

و أما المباحث فستة:

الاول: في بيان هل إن الاصل جواز الانتفاع بالاعيان النجسة الا ما دلّ الدليل على منعه، أو أن الاصل حرمة الانتفاع بالاعيان النجسة الا ما دلّ الدليل على جوازه؟. الثاني: في بيان (أنّ) الاعيان النجسة هل تدخل في الملك أو لا؟.

الثالث: على تقدير دخولها في الملك (فالبحث) في انها هل تقبل التمليك مجانا من غير عوض أولا؟.

الرابع: على تقدير قبولها التمليك مجانا (فالبحث) في انها هل تقبل التمليك بعوض فيجوز الاكتساب بها أو لا؟.


1- في المخطوطة (وجه) و الصحيح ما في المسالك بدليل تانيث كلمة (أخرى).
2- ما بين المعقوفتين اضافة" من المسالك.
3- ما بين المعقوفتين اضافة" من المسالك.
4- الشهيد الثاني، مسالك الافهام، 4/ 6.

ص: 17

الخامس: على القول بعدم دخولها في الملك، هل يثبت فيها حق الاختصاص أو لا؟. السادس: هل يجوز الاكتساب بحق الاختصاص على تقدير ثبوته أو لا؟.

أما المقدمة و هي (أن كل ما حرمت منافعه حرم الاكتساب به)

فهي قاعدة متينة مقطوع بها في كلام القوم، بل لم نر رادّا لها. قال في محكيّ الايضاح: (و أما ما فيه منفعة مقصودة فلا يخلو عن (1) ثلاثة أقسام:

احدها: أنْ تكون سائر منافعه محرَّمَة.

الثاني: أن تكون سائر منافعه محللة.

الثالث: أن يكون بعضها محللا و بعضها محرّما. فإن كانت سائر منافعه محرّمة صار كما لا منفعة فيه أصلًا (2) بمعنى عدم جواز بيعه، و عن التنقيح (3) حكاية الاجماع على ذلك. و قال في محكيّ الايضاح: و إنْ كانت سائر منافعه محللة جاز بيعه إجماعا و إن كان منافعه مختلفة فهذا الموضوع من المشكلات و مزال الاقدام.

فنقول قد تقدم اصلان: جواز البيع عند تحليل سائر المنافع و تحريمه عند تحريمها و عن المقداد و الفخر أنهما قالا في بيان حرمة بيع الاعيان النجسة: إنما يحرم بيعها لأنها محرّمة الانتفاع و كل محرم الانتفاع لا يصح بيعه، و مما يدل على هذه القاعدة أن المفهوم من الكتاب و السنة ان المعاملات إنما شرعتْ لمصالح العباد و فوائدهم الدنيوية و الاخروية مما يسمى مصلحة أو فائدة عرفا، و مع تحريم جميع المنافع لا مصلحة في المعاملة. و يدل عليها ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم) أنه قال: (ان الله اذا حرّم شيئاً حرُم ثمنه) (4) و يدل عليها ايضا خبر ابي بصير عن ابي عبد الله، انه قال (صلّى الله عليه و آله و سلّم):


1- في الايضاح (من).
2- ابن العلامة، ايضاح الفوائد، 1/ 401، و العبارة الاخيرة فيه (صار كالقسم الاول الذي لا منفعة فيه).
3- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 55 ب.
4- علي بن عمر الدار قطني، سنن الدار قطني، 3/ 57 الطوسي، الخلاف، 3/ 184، علي بن الجعد، مسند ابن الجعد، 479.

ص: 18

(انّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها) (1) و لا يخفى ان لفظ البيع و الثمن في الخبر من باب المثال.

و يدل عليها ايضا

قوله (عليه السلام): (لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها)

(2) و يدل عليه أيضا

خبر تحف العقول حيث قال فيه: (و أما وجوه الحرام من البيع و الشراء، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد)

(3) و يدل على القاعدة المذكورة

خبر دعائم الاسلام عن الصادق (عليه السلام): (إن الحلال من البيع كل ما كان حلالًا من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام الناس و يباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرماً أصله منهياً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه)

(4). و يمكن أن يدّعى أن الاكتساب بمحرم المنافع من باب الأكل بالباطل، لأن العوض إنما يدفع في مقابلة الانتفاع بالمعوض، فإذا حرم الانتفاع بالمعوّض كان أخذ العوض من غير مقابل، و هو عين الأكل بالباطل، بل ربما يقال أنها من المعاوضات الشفهية الباطلة.

و كما أن محرّم جميع المنافع يحرُم الاكتساب به فكذا محرّم المنفعة الغالبة الظاهرة المقصودة من تلك العين يحرم الاكتساب به، و ربما يشعر بذلك قوله (عليه السلام): (الذي حرّم شربها حرّم ثمنها) (5)، و قد عرفت أن الثمن في الخبر من باب المثال، بل ربما يشعر بذلك

قوله (عليه السلام): (لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها)

(6). لأن الظاهر من حرمة الشحوم اكلها و لو كانت المنفعة النادرة المحلَّلة قاضية بجواز


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.
2- احمد بن حنبل، مسند احمد، 1/ 247، البخاري، صحيح البخاري، 30، 40، البيهقي، الحسن البكري 6/ 13.
3- ابن شعبة، تحف العقول، 247.
4- النعمان بن محمد المغربي، دعائم الاسلام، 2/ 16، بتغيير قليل في الألفاظ.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.
6- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، 1/ 247.

ص: 19

التكسب لما حرُم التكسب بشي ء من الاعيان، لانه ما من عين إلا و لها منفعة محللة. و لكن الميزان و المدار على المنفعة المقصودة للعقلاء في المعاوضات.

و بعبارة اخرى المنفعة التي مع سلبها عن العين تخرج العين عن المالية عرفا، و مما يشعر بذلك

قوله (عليه السلام): (إذا حرّم الله شيئا حرّم ثمنه)

(1). لأن معنى الخبر إذا حرّم الله شيئا مطلقا حرم ثمنه، أي قال: إن هذا حرام. و لا شك ان نسبة التحريم الى الاعيان تنصرف الى تحريم منافعها الظاهرة على وجه كما لا يخفى.

فقد تلخّص مما ذكرنا أن كل ما حرُمت سائر منافعه حرم التكسب به، بل كلما حرمت المنفعة المقصودة للعقلاء عند المعارضة حرم التكسب به.

المبحث الأول الانتفاع بالاعيان النجسة

هل إن الاصل جواز الانتفاع بالاعيان النجسة الا ما خرج بالدليل؟، كما يحكى عن المولى الاردبيلي (2) الميل اليه و اختاره جدي في شرح القواعد (3) و تبعه على ذلك بعض المعاصرين من المتأخرين (4)، أو أن الاصل العكس، فصار الاصل حرمة الانتفاع بالاعيان النجسة الا ما خرج بالدليل، أو هو المنسوب الى ظاهر الاكثر.

أما مستند الاول: فهو أصالة اباحة الانتفاع.

و أما مستند الثاني فأمور:

احدها: الاجماع المنقول، فعن فخر الدين (5) و المقداد انهما قالا في الاستدلال على عدم جواز بيع الاعيان النجسة: انها محرمة الانتفاع، و كل ما هو كذلك لا يجوز بيعه. أما الصغرى فإجماعية، و أما الكبرى فلقول النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم): (لعن الله اليهود


1- علي بن عمر الدار قطني، سنن الدار قطني، 3/ 7، الطوسي، الخلاف، 3/ 184.
2- المحقق الاردبيلي، مجمع الفائدة، 11/ 124، 220.
3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 12.
4- الشيخ الانصاري، المكاسب، 1/ 82، 83.
5- ابن العلامة، ايضاح الفوائد، 1/ 401، 240.

ص: 20

حُرّمت عليهم الشحوم فباعوها) (1)، علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرم فيتعدّى الى كل محرم الانتفاع و لما رواه ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم): (أن الله تعالى إذا حرّم شيئا حرم ثمنه (2)) (3).

ثانيها: ظاهر الكتاب، و هو آيات، منها قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ) (4) بناءً على ما ذكره جمع من أصحابنا من ان نسبة التحريم الى العين يقتضي تحريم جميع منافعها و منها قوله تعالى: (آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (5) فأنّ الآية دلت على وجوب اجتناب كل رجس، و الرجس نجس العين، و الاجتناب لا يحصل مع الانتفاع به ببعض المنافع. و منها قوله تعالى: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (6) فان الرجز النجس كما صرح به جماعة من اهل اللغة، و هو المناسب ايضاً لقوله تعالى: (وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ) (7) و هجره لا يتم الا بترك جميع الانتفاعات به.

ثالثها: ظواهر بعض الاخبار، كخبر تحف العقول، فانه قال فيه في وجوه الحرام من البيع و الشراء: (أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كله حرام محرم، لان ذلك كله منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلب فيه بوجه من الوجوه بما فيه من الفساد (8)، فجميع تقلبه في ذلك حرام) (9).


1- احمد بن حنبل، مسند احمد، 1/ 247.
2- علي بن عمر الدار قطني، سنن الدار قطني، 3/ 7.
3- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 55 ب، و ما بين المعقوفتين ساقط من المخطوطة.
4- المائدة، 3.
5- المائدة، 90.
6- المدثر، 4.
7- المدثر، 4.
8- ما بين المعقوفتين إضافة من التحف.
9- ابن شعبة، تحف العقول، ص 247.

ص: 21

رابعها: ما دلَّ من الاخبار و الاجماع على عدم جواز بيع نجس العين، بناء على أن المنع من بيعه لا يكون الا من جهة حرمة الانتفاع به.

و ناقش بعض المتأخرين في جميع ذلك، و ادعى أن التأمل يقضي بعدم الاعتماد على شي ء مما ذكر في مقابلة اصالة الاباحة. قال: أما الآية الاولى فالتحريم فيها إنما ينصرف الى المنفعة المقصودة الغالبة و هي الأكل. و إنما يحكم بتعلقه بجميع المنافع حيث لا تكون منفعة غالبة ظاهرة مقصودة. و مثله قال في الآية الثانية، فإن الاجتناب انما يتعلق بالمنفعة الظاهرة المقصودة و هي الشرب. و مثله قال في الآية الثالثة في هجر الرجز فانه عبارة عن هجر مباشرته. و قال في خبر تحف العقول: إن المراد بالامساك و التقلب فيه ما يرجع الى الاكل و الشرب و إلا فإمساك نجس العين لبعض الفوائد مما لا إشكال فيه (1)، بل نقل بعض أصحابنا الاتفاق على ذلك، فيكون المراد من الامساك و التقلب في خبر الامساك و التقلب للوجه المحرم. و أما الاجماع و الاخبار الدالة على حرمة بيع نجس العين فيكون ادعاء اختصاصها بما لا يحل الانتفاع المعتد به من الاعيان النجسة، على أنه يمكن منع دعوى المنع من البيع من جهة حرمة الانتفاع، بل لعل المانع نجاسة العين و إن جاز الانتفاع (2). و أما اجماع الايضاح و التنقيح المنقول عن فخر الدين (3) و المقداد (4) فادعى ان قضية التتبع توهنه لان جمعا من اصحابنا صرحوا بجواز اقتناء الاعيان النجسة لبعض الفوائد، و جمعا منهم صرحوا بجواز الانتفاع بالاعيان النجسة، و ان نجاستها لا تمنع الانتفاع بها (5). ثمّ قال: و لعله للاحاطة بما ذكرنا اختار بعض الاساطين في شرحه على القواعد جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجس (6)، يريد به جدي المرحوم حيث قال: (و يجوز الانتفاع بالاعيان النجسة و المتنجسة في غير ما ورد النص


1- الشيخ الانصاري، المكاسب، 1/ 98.
2- الشيخ الانصاري، المكاسب، 1/ 99.
3- ابن العلامة، ايضاح الفوائد، 1/ 401.
4- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 55 ب.
5- الشيخ الانصاري، المكاسب 1/ 102.
6- الشيخ الانصاري، المكاسب، 1/ 100- 102.

ص: 22

بمنعه كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها في ما يسمى استعمالًا عرفا للأخبار و الاجماع، و كالاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال، و ما دل على المنع من الانتفاع بالنجس و المتنجس مخصوص أو منزّل على الانتفاع الدال على عدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة و أما من استعمله ليغسله فغير مشمول للادلة و يبقى على حكم الأصل (1)، و لا يخفى على المتأمل انه يكفي في قطع الاصل المذكور و انعكاسه الاجماع المنقول عن الغنية و الخلاف، مضافاً الى اجماع التنقيح (2) و الايضاح (3) المؤيد ذلك الاجماع بفتوى الاكثر، و المناقشة فيه بقضية التتبُّع مردودة لان قصارى ذلك ان البعض يفتي بجواز الانتفاع، و هو لا ينافي حكاية الاجماع.

المبحث الثاني تملّك ما يحرم التكسب به

إن الأعيان النجسة هل يتعلق بها الملك أو لا؟، الظاهر العدم، و قد جزم بذلك جدي في شرح القواعد حيث قال: (و لا يتعلق بما لا يقبل التطهير، في ما عدا بعض أقسام الكلب و بعض أفراد الدهن الآتي ذكرها تمليكٌ مطلقاً، و لا بالأعيان منها ملك، و في النجس بالعارض وجهان) (4) و قال والدي (قُدّسَ سرُّه) في بعض عبائره: (الثاني: جواز تمليكها و تملكها مجانا من دون معاوضة. و الاصل في النجسة بالاصالة عدمهما معاً و في النجسة بقاؤها على الملك فتُملّك كذلك، و على القول بخروجها عن الملك بعروض النجاسة فحق الاختصاص باق بالاستصحاب)، و قال في الجواهر: (بل ربما ظهر من خبر التحف المزبور عدم دخوله في الملك، كما صرح به بعض مشايخنا جازما به، و يؤيّده عدم عدّه في الاموال عرفا مع اصالة عدم دخوله فيه) (5).

أقول: يدل على عدم تعلق الملك بالأعيان أمور:


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 12- 13.
2- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 55 ب.
3- ابن العلامة، ايضاح الفوائد، 1/ 401.
4- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 13.
5- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 9.

ص: 23

أحدها: الأصل، لأن الملك قد جعل له الشارع اسبابا خاصة معلومة معدودة لا يحصل الملك بدونها، لأن حصوله بدونها ينافي عدّها و حصرها، و مع الشك في تعلق تلك الأسباب بالأعيان النجسة فأصالة عدم الدخول في الملك محكّمة و ليس الملكُ تابعا للسلطنة العرفية حتى يحكم به مع وجودها، و لا تعد هذه الأعيان أموالًا عرفا حتى يحكم بمملوكيتها فاصالة عدم دخولها في الملك محكّمة.

ثانيها: خبر تحف العقول، قال فيه: (أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كله حرام و محرّم، لان ذلك كله منهي عن اكله و شربه و لبسه و ملكه و امساكه و التقلب فيه (بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد)، فجميع تقلبه في ذلك حرام) (1)، فان الخبر المذكور صريح في عدم دخول الأعيان النجسة في الملك.

لا يقال ان النهي عن الملك ينحل الى النهي عن سببه الذي هو البيع و الشراء و غير ذلك من الاسباب، و النهي عن السبب المذكور قصارى ما يقتضي تحريم السبب المذكور، و أما عدم دخول العين المذكورة في الملك فلا يقتضي النهي، ذلك لانا نقول إن الظاهر من النهي عن الملك الارشاد الى عدم حصوله كما لا يخفى على من مارس لسان الاخبار، و لو اريد النهي عن السبب لنا سبه النهي عن التملك لا النهي عن الملك، و ايضا لو كان المراد ذلك لكان قوله: (فتقلبه في جميع ذلك حرام) (2) تأكيداً لذلك و هو خلاف الظاهر.

ثالثها: الاخبار المتكثرة القائلة بان ثمن الاعيان النجسة سحت، كقول أبي جعفر (عليه السلام) في خبر عمار بن مروان: (و السحت انواع كثيرة منها: اجور الفواجر، و ثمن الخمر و النبيذ، و المسكر) (3)، و منها: قول ابي عبد الله (عليه السلام) في خبر يزيد بن فرقد:


1- ابن شعبة، تحف العقول، ص 247.
2- العبارة في التحف هي (فجميع تقلبه في ذلك حرام)، 247.
3- المصدر نفسه 12/ 63.

ص: 24

(السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخنزير) (1)، و منها

قوله (عليه السلام): (اجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت)

(2) و في

وصية النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم): (يا علي، السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر)

، و منها

قول الصادق (عليه السلام)

في

خبر يعقوب بن شعيب: (ثمن العذرة من السحت)

(2). و الظاهر من هذه الاخبار أنه إنما كان من السحت لأنه من باب الاكل بالباطل، لأن المعوَّض غير مملوك فلا ينتقل الى المشتري شي ء عوض ثمنه فيكون الثمن سحتاً. لا يقال ان كون الثمن سحتاً لا يقتضي عدم الملكية لاحتمال ان يكون لعدم قابلية الاعيان المذكورة للتمليك بعوض لعدم جواز الانتفاع بها منفعة محللة مقصودة للعقلاء، أو لتحريم بيعها و التكسب بها شرعاً. قلت: كل ذا و إنْ كان محتملا، و لكنه لا ينافي ظهور الاخبار في كون المنشأ في ذلك عدم كونها مملوكة فتأمّل.

رابعها: حكاية الاجماع من بعض اصحابنا على بعض الاعيان المذكورة مع عدم القول بالفصل. قال في جواهر الكلام في بيع العذرة: (البيع مشروط بالملك، و العذرات غير مملوكة باتفاق علمائنا كما قيل) (3).

و مما ذكرناه يعلم الكلام في المبحث الثالث و الرابع،

لأن ما لا يقبل صفة الملك لا يقبل التمليك لا مجانا و لا بالعوض كما هو واضح.

المبحث الخامس في ثبوت حق الاختصاص في الاعيان النجسة

يظهر من بعض متأخري اصحابنا ثبوته. قال في الجواهر: (نعم قد يقال بان له حق الاختصاص لمن سبق اليه، لتحقق الظلم عرفا بالمزاحمة) (4).

أقول: يشكل الحال في ذلك بعد الالتفات الى الأدلة، أ لا ترى انه (عليه السلام) نهى عن امساكه في خبر تحف العقول حيث

قال: (أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كله حرام


1- لم أجد في ما راجعته خبراً بهذا اللفظ ليزيد بن فرقد، و ما وجدته
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 17.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 9.

ص: 25

(و محرم) لأن (ذلك كله) منهي عن اكله و شربه و لبسه و ملكه و امساكه و التقلب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلبه في ذلك حرام)

(1) و عن امساك الخمر و الخنزير في

خبر يونس في مجوسي باع خمراً أو خنازير الى أجل مسمى ثمّ اسلم قبل أن يحل المال قال: له دراهمه (2). و قال: (إنْ أسلم رجل و له خمر أو خنازير ثمّ مات و هي في ملكه و عليه دين، قال: يبيع ديّانُه أو ولي له غير مسلم خمرَه و خنازيره، و يقضي دينه و ليس له ان يبيعه و هو حي و لا يمسكه)

(3) و امر بإهراق الخمر في

خبر محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رجلا من ثقيف أهدى الى رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) راويتين من خمر (بعد ما حرمت) فأمر بهما رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) فأهريقتا)

(4) الخبر. و في

خبر أبي بصير (أنه اهدي الى رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) راوية من خمر فأمر بها فصُبت في الصعيد)

(5). و لا شك أن النهي عن الامساك و الامر بالإهراق مما ينافيان ثبوت حق الاختصاص على أن العلامة (رحمه الله) في التذكرة نقل الاجماع على عدم صحة الوصية بما هو خارج عن كونه مقصودا للتملك كفضلات الانسان، مثل شعره و ظفره و العذرات (6)، مع أنه يكفي في صحة الوصية ثبوت الاختصاص في (7)، و حق المنع الملازم لجواز الافتاء.

و الحقُّ التفصيل بين ما ثبت له منفعة محللة و بين ما لم تثبت، و لو لم تكن المنفعة غالبة بل كانت نادرة كالتسميد بالعذرة، فما تثبت له منفعة محللة يثبت حق الاختصاص فيه، و ما لم يثبت لم يثبت. قال جدي في شرح القواعد: (و عدم الملك لا ينافي ثبوت الاختصاص في ما لَهُ منفعة محللة) (8). لأن تحليل الانتفاع بتلك المنفعة يجوّز إمساكه، و عدُّ أهل العرف المزاحمة عليه ظلمٌ و تعدٍ يثبت الاختصاص،


1- ابن شعبة، تحف العقول، 247.
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الاحكام، 7/ 138.
3- المصدر نفسه، 7/ 138.
4- المصدر نفسه، 7/ 136.
5- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 7/ 135، بايجاز في النقل.
6- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 2/ 479.
7- يوجد سقط في العبارة.
8- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 13.

ص: 26

و النهي عن الامساك للوجه المحرم كما يقضي به فقه الرضا (عليه السلام) حيث قال فيه: (و كل أمر يكون فيه الفساد مما قد نُهي عنه من جهة اكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد، مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر، و ما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم) (1).

و اما خبر يونس فمع اشتماله على مخالفة الاصحاب في عدة مقامات منها قوله: (ثمّ مات و هي في ملكه) مع أن المسلم لا يملكها كما عرفت، و منها قوله: (يبيع ديّانه) و الديّان لا ولاية له على ذلك، و منها قوله: (أو ولي له غير مسلم) و غير المسلم لا يكون وليا للمسلم، محمول أيضا على كون النهي عن الامساك للوجه المحرم و هو البيع. و أما الامر بالإهراق فهو في خصوص الخمر، و لعله لا منفعة له أو لعله لبيان حرمة البيع، و لهذا عقب الأمر بالإهراق بقوله: (إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها) (2). و اما إجماع العلامة المنقول على عدم صحة الوصية فلعله في خصوص الوصية المقتضية للتمليك فحينئذ يثبت حق الاختصاص في ما يثبت له منفعة محللة، و إن لم تكن غالبة من اعيان النجاسات.

المبحث السادس في جواز التكسب بحق الاختصاص المذكور

و صريح الشيخ جدي (رحمه الله) في شرح القواعد و جواهر الكلام (3) الجواز. ولي في ذلك نظر تبعا لمفتاح الكرامة حيث قال: (و لا يجوز نقله بصلح و لا بجعل كما هو ظاهر الاصحاب لإطلاقهم المنع من جميع ضروب التكسب بالاعيان النجسة، و هذا منها و إن لم يكن تكسبا بنفس العين، و لان ما لا قيمة لعينه لا قيمة للحق الثابت فيه، و لخصوص خبر تحف العقول الناهي عن التقلب فيه في جميع التقلب الذي من جملته الامساك) و كيف كان فمن جملة الاعيان النجسة التي يحرم التكسب بها كما في الشرائع الخمر و الانبذة المسكرة و الفقاع (4).


1- علي بن بابويه، فقه الرضا، 250.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 17.
4- المحقق المحلي، شرائع الاسلام، 753.

ص: 27

أقول: الخمر المسكر المتخذ من العنب، و النبيذ المسكر المتخذ من التمر و البِتْع بكسر الباء و سكون التاء المثناة أو فتحها المتخذ من العسل، و الفَضيخ بفتح الفاء و كسر الضاد المعجمة المتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار، و النقيع المتخذ من الزبيب، و المِزْر بكسر الميم فالزاء المعجمة الساكنة فالمهملة المتخذة من الذرة. هكذا قال الشهيد في الروضة (1).

و في الخبر إنه المتخذ من الشعير (2)، و الجعة بكسر الجيم و فتح العين المتخذ من الشعير، و الفقاع و هو المتخذ من الزبيب أو الشعير حتى وجد فيه النشيش و الحركة كما في الروضة. و الظاهر أن المحقق (رحمه الله) اطلق النبيذ على جميع الامور المذكورة ما عدا الخمر و الفقاع، و لهذا جمعه (3)، و الظاهر ايضا أن لفظ الخمر يعم الجميع لغة و شرعاً.

قال في مجمع البحرين الخمر فيما أشتهر بينهم كل شراب مسكر، و لا يختص بعصير العنب. قال في القاموس (و) العموم أصح، لأنها حرمت و ما في المدينة خمر، و ما كان شرابهم الا التمر و البسر (4). و لانه اسم لما يخمر العقل و يغمره، و الجميع مشترك في ذلك، و قال ابو عبد الله (عليه السلام): (قال: رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) الخمر من خمسة، العصير من الكرم و النقيع من الزبيب و البتع من العسل و المزر من الشعير و النبيذ من التمر) (5)، و قال أبو الحسن (عليه السلام): (لم يحرم الله الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر) (6). فعلى هذا يكون عطف الأنبذة المسكرة و الفقاع في عبارة المحقق من باب عطف الخاص على العام.


1- الشهيد الثاني، الروضة بشرح السيد كلانتر، 3/ 206- 207.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 392.
3- المحقق الحلي، شرائع الاسلام، 753.
4- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 292، و ما بين المعقوفتين إضافة من المجمع.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 221.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 273، باختلاف قليل في اللفظ.

ص: 28

و كيف كان فيدل على عدم جواز التكسب بالامور المذكورة أمور:

أحدها: اصالة حرمة الانتفاع بها، و يؤيده ما دل على وجوب اهراقها على من هي بيده و على من غيره كفاية. و ليس في الادلة ما يدل على جواز الانتفاع بها بوجه، و الانتفاع حال الضرورة للتداوي ليس من المنافع المعتبرة المقصودة للعقلاء في المعاوضات، و قد عرفت في المقدمة ان كل ما حرمت منفعته الغالبة المعتبرة عند العقلاء حرم التكسب به.

ثانيها: ما دل على عدم قبول الاعيان النجسة صفة الملك، و يزيده هنا الاجماع المنقول على انها ليست مملوكة، و انها نجسة، عن الخلاف (1) و غيره، و يزيده ما دل على وجوب اهراقها، و كلما لم يكن كذلك مملوك العين لا يجوز التكسب في عينه. ثالثها: ما دل من الاخبار على وجوب إهراقها، فإن المفهوم منها ان الشارع لا يريد بقاء عينها بل يريد اتلافها، و هو مناف لجواز التكسب بها.

رابعها: الاجماعات المتكررة النقل في كلام الاصحاب، فعن الخلاف (2) و المنتهى (3) الاجماع على عدم جواز بيعها و شرائها، و في محكي السرائر أن (كل شراب مسكر حكمه حكم الخمر على السواء قليلا كان او كثيرا، نيا كان أو مطبوخا، و كذلك حكم الفقاع حكمه، فان شربه و عمله و التجارة فيه و التكسب به محظور بلا خلاف بين فقهاء أهل البيت (عليه السلام) فان اجماعهم منعقد على ذلك) (4) و عن التذكرة الاجماع (5) على عدم صحة بيعها أي الخمرة.

خامسها: الاخبار المتكثرة الدالة على ان ثمن الخمر سحت. و قد عرفت أن الثمن في الاخبار مثالٌ لمطلق العوض، و متى ما حرم عوضه حرم التمسك به للملازمة العرفية بينهما. و دعوى أن حرمة العوض لا تستلزم حرمة التكسب مردودة على مدعيها.


1- الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 241.
2- الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 185.
3- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1008.
4- ابن ادريس الحلي، السرائر، 2/ 219، باختلاف قليل في الالفاظ.
5- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 582.

ص: 29

سادسها: الاخبار المتكثرة الناهية عن بيع الخمر التي منها ما رواه زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: (لعن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة اليه) (1) و منها ما رواه جابر الجعفي عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: (لعن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة اليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها) (2). و منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي: أن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) نهى أن يُشترى الخمر و أن يسقى الخمر قال: (لعن الله الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة اليه) (3). و منها ما رواه أبو بصير عن ابي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن ثمن الخمر فقال: (أُهدي الى رسول الله صلى الله عليه و آله راوية خمر بعد ما حرمت الخمر، فامر بها أن تباع فلما ادبر بها الذمي يبيعها، ناداه رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) من خلفه، يا صاحب الراوية، أن الذي حرّمها حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّتْ في الصعيد، فقال: ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت) (4). هذا و ما يعارض ما ذكرناه من الاخبار فمطّرَح او مؤول، لعدم قابليته لمعارضة ما سمعت من الاخبار الصحيحة الصريحة المجبورة بما سمعت من الإجماعات المؤيدة بما عرفت من القواعد، كخبر جميل أنه قال للصادق (عليه السلام): (يكون لي على الرجل دراهم فيعطيني بها خمرة، فقال: خذها ثمّ أفسدها) (5) و هو مع ضعفه و عدم قابليته لمعارضة ما مر من الاخبار لا دلالة فيه على جواز المعاوضة،


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.
2- المصدر نفسه، 12/ 165.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 165.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 165.
5- الشيخ الطوسي، تهذيب الاحكام، 9/ 118.

ص: 30

بل على جواز أخذها لإفسادها بجعلها خلا، و لعله مما لا خلاف فيه لاستفاضة النصوص بجواز اخذها لذلك. و خبر محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه السلام): (في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيراً، فأنطلق الغلام فعصر خمرا ثمّ باعه، قال: لا يصلح ثمنه)، ثمّ قال: (أن رجلا من ثقيف أهدى الى رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) راويتين من خمر فأمر بهما رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) فاهريقتا، و قال: ان الذي حرّم شربها حرّم ثمنها)، ثمّ قال: أبو عبد الله (عليه السلام): (أن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها) (1). و خبر ابي ايوب قال قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): (رجلٌ أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمراً، ثمّ أتاه بثمنه، فقال: أن أحب الاشياء اليّ أن يتصدق بثمنه) (2) فإن الصدقة بثمنه لا تدل على صحة المعاوضة، بل لعلها لبقاء الثمن على ملك المشتري، و حيث كان مجهولا أمر بالتصدُّق كسائر مجهول المالك.

فإن قلت هذا ينافي قوله: (أفضل) و قوله: (أحب اليّ)، قلت: لعله لما كان المشتري عالما بأن الخمر لا يُملك فكأنه دفع للبائع الثمن بلا عوض فيكون بمنزلة الهبة، فمن هنا كانت الصدقة أفضل و أحب فتأمل.

حرمة التكسب بالميتة و أجزائها

و من جملة الاعيان النجسة التي يحرم التكسب بها من نجس العين الميتة و أجزاؤها مطلقا من غير فرق بين ما تحله الحياة و ما لا تحلّه منها، و من طاهر العين ذي النفس السائلة و أجزائها التي تحلها الحياة دون ما لا تحله الحياة، و دون ما لا نفس له مع امتيازها و انفرادها، و مع اختلاطها و اشتباهها بالمذكى اذا كانت محصورة من غير فرق بين كون البيع على المسلم أو على الكافر مستحلًا أو لا، محترَم المال اولا، كل ذلك لما


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 164.

ص: 31

ذكرناه في ما مر من عدم تعلق صفة الملك بالاعيان النجسة التي هذه منها، مضافا الى خصوص الاجماع المنقول عن رهن الخلاف (1) على عدم ملكيتها بالخصوص، و عدمُ تعلُّقٖ صفة الملك يمنعُ من التكسب بعينها، لما ذكرناه من عدم جواز الانتفاع بالاعيان النجسة التي هذه منها، مضافا الى القاعدة المتقدمة و هي (انّ كلّ ما حرمت منافعه حرم التكسب به). هذا بناءً على ما ذكرنا من القاعدة التي احكمناها و هي حرمة الانتفاع (2) بها الا ما خرج بالدليل.

فالميتة بالخصوص مما خرجت بالدليل، لما دلّ على عدم جواز الانتفاع بها لقوله (عليه السلام): (و لا ينتفع بها و لو بشسع نعل) (3) فيكون التكسب بها من باب اكل المال بالباطل، لاشتراط وجود المنفعة المحللة في المبيع.

و أما ما يقوله بعض الاعيان من انّ المنافع النادرة التي لا تعد استعمالًا عرفاً كإحراقها في الحمام او إعطائها لحيوان لياكلها لا تدخل تحت الاخبار المانعة عن الانتفاع بالميتة، لانه (عليه السلام) جعل الفرد الخفي مثل شسع النعل الذي هو من الاستعمالات المتعارفة للجلود، فلا ينصرف له الاطلاق لمثل ذلك الانتفاع، فنرجع فيه الى اصالة الجواز، ففيه:

أولًا: إنه مبني على أصالة جواز الانتفاع بالاعيان النجسة التي قد عرفت انقطاعها بالادلة المتقدمة.

ثانيها: إن هذه الانتفاعات لا تجوّز التكسّب، لانه انما يجوز فيما كانت له منفعة مقصودة للعقلاء يعدّ من جهتها مالا، و يقابل بالعوض لأجلها، و هذه المنافع ليست كذلك، بل هي من المنافع النادرة كاكلها عند الضرورة، فكما لا يجوز البيع لذلك، لا يجوز البيع لهذه المنافع النادرة، بل قد عرفت في القانون المتقدم أن كل ما حرمت منفعته الغالبة التي من جهتها يعد مالا و إن حلّت بقية منافعه لا يجوز التكسب به. و يدل على حرمة التكسب بالميتة مضافا الى ما مر الاجماع المحكي عن التذكرة (4) و المنتهى (5) و التنقيح (6) على حرمة ذلك.


1- يقصد موضوع الرهن من كتاب الخلاف للشيخ الطوسي، 3/ 241.
2- في المخطوطة (حرمة عدم الانتفاع بها).
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3/ 249، و اللفظ مختلف.
4- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 581.
5- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1008.
6- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 55 ب.

ص: 32

و يدل عليه ايضا الاخبار المتكثرة العادّة ثمن الميتة من السحت، فمنها: خبر يزيد بن فرقد عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: (السحت ثمن الميتة و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن) (1)، و منه وصية النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم) لعلي (عليه السلام): (يا علي من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية) (2)، و منها خبر عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال: لا و لا لبسها فلا يصل فيها) (3)، و يدل عليه قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (4)، لأنه إما ان يكون التحريم لجميع المنافع التي منها البيع، او لخصوص المنفعة الظاهرة و هي الاكل، و على الاول فالامر واضح، و على الثاني كذلك، لان تحريم المنفعة الغالبة يقتضي تحريم التكسب كما عرفت فيما سبق. و هنا مباحث:

أحدها: لو اشتبه الميت بالمذكى لم يجز بيعه، وفاقاً لجمع من اساطين المتأخرين، و عن الشيخ في النهاية (5) و ابن حمزة (6) جواز بيع ذلك على مستحل الميتة و استوجهه في الكفاية، و عن المحقق الجواز إن قصد بيع المذكى خاصة (7)، و عن الشهيد في الدروس (8) عرضه على النار و اختباره بالانبساط و الانقباض كاللحم المطروح المشتبه، و الاقوى عدم الجواز مطلقاً لان المشتبه بالميتة كالميتة اكلا و انتفاعا، فكما لا يجوز اكل الميتة و لا الانتفاع بها لا يجوز اكل المشتبه بها و لا الانتفاع به، لوجوب الاجتناب عن اكل المشتبهين، فيكون دفع الثمن بازاء المذكى المشتبه بالميتة و قبضه و أكله من باب أكل المال بالباطل المنهي عنه.


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 127، و لم أجد في ما راجعت ان يزيد بن فرقد يروي هذا الحديث.
2- الحر العاملي، و سائل الشيعة، 12/ 63.
3- المصدر نفسه، 12/ 65، و ما في المخطوطة (لا يصلح فيها) و ما أثبتناه من الوسائل.
4- المائدة، 3.
5- الشيخ الطوسي، النهاية، 586.
6- ابن حمزة الطوسي، الوسيلة، 362.
7- المحقق الحلي، شرائع الاسلام، 4/ 752.
8- الشهيد الأول، الدروس، 3/ 13- 14.

ص: 33

هذا إن قصد بيع المذكى، و إن قصد بيع المجموع فاولى بالبطلان؛ لما دل على عدم جواز بيع النجس، و ما دل على عدم جواز بيع الميتة، و ما دل على عدم جواز الانتفاع بها، فان ذلك كله شامل.

استدل الشيخ و ابن حمزة (1) على جواز بيع ذلك على المستحل بخبر الحلبي، قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: (اذا اختلط المذكى و الميتة باعه ممن يستحل الميتة و اكل ثمنه) (2)، و خبره الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكي منها فيعزله و يعزل الميتة ثمّ ان الميتة و الذكي اختلطا، كيف يصنع؟ قال: يبيعه ممن يستحل الميتة و يأكل ثمنه، فإنه لا بأس) (3)، و خبر علي بن جعفر (عليه السلام) مثله.

و فيه أن هذه الاخبار مع معارضتها بالمرويّ عن امير المؤمنين (عليه السلام): (انه يرمي بها)، ليست لها قابلية معارضة ما دل على المنع من بيع النجس، و ما دلّ على المنع من بيع الميتة و إن ثمنها سحت، و ما دل من المنع من الاعانة على الاثم، و ما دل على النهي عن المنكر لان الكفار مكلفون بالفروع، و الاجماعات المتقدمة، فلا بد من اطّراحها أو حملها (4) على التعجيز كما قيل، بناء على عدم المستحل للميتة بعد عهد موسى (عليه السلام)، او حملها على التقية بحمل المبيع منها على جلودها خاصة بعد الدبغ فيكون المراد من المستحل ما يعم الكافر و المخالف.


1- الشيخ الطوسي، النهاية، 586، ابن حمزة الطوسي، الوسيلة، 362.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 260.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 260.
4- في المخطوطة (حمل) و الصحيح ما أثبتناه.

ص: 34

قال بعض المعاصرين: و يمكن حملها على صورة قصد البائع المسلم اجزاءَها التي لا تحلها الحياة من الصوف و الشعر و العظم و نحوها، و تخصيص المشتري بالمستحل لان الداعي له على الاشتراء اللحم ايضا، و لا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه (1)، و هو كما ترى، و حَمَل العلامة الاخبار المذكورة على أن ذلك ليس بيعا صحيحاً بل هو استنقاذ من مال الكافر و إخراج للمال من يده بحيلة (2). قال بعض المعاصرين: و فيه ان المستحل قد يكون ممن لا يجوز له الاستنقاذ منه الا بالأسباب الشرعية كالذمي (3) و هو كما ترى، لأنها محمولة على المستحل الذي يجوز الاستنقاذ منه. و قال بعض المتأخرين: (و فيه ان المسئول الصادق (عليه السلام) و وجود الحربي في زمانه بحيث يَتعامل معه السائلُ حتى يستنفذ منه المال بعيد، و الذميّ ماله محترم) ثمّ قال: الا أن يقال انه يمكن وجود المعاهد حينئذ، و تكون معهم المعاملة فاسدة ايضا كالحربي و يكون ذلك استنقاذاً، و الفرق بين المعاهد و الحربي بعد فساد معاملة كل منهما أن الحربي يمكن استنقاذ ماله و لو قهراً، و المعاهد هو الذي لا يؤخذ ماله الا برضاه و لو بحيلة غير شرعية، و يمكن أن يكون مستند المحقق فيما ذهب اليه تنزيل الخبرين المذكورين على ذلك.

و فيه أن ظاهرهما بيع المجموع من المستحل دون المذكى خاصة، فحملُ الخبرين على ذلك خروج عن ظاهرهما و اطراح لهما، على أن قصد بيع المذكى خاصة لا يجدي نفعا بعد اشتباهه بالميتة، لانه يكون حكمه حكم الميتة باعتبار وجوب اجتناب الشبهة المحصورة و عدم جواز ارتكاب شي ء منها.


1- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 38.
2- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 8/ 319.
3- الشيخ الانصاري، المكاسب، 1/ 38.

ص: 35

هذا على المختار في الشبهة المحصورة، و على القول بجواز ارتكاب الشبهة المحصورة لا بد من القول بعدم الجواز هنا، لان الأصل في كل من أفرادها- بعد إلغاء العلم الإجمالي- عدم التذكية. نعم في ما كان الأصل في أفرادها الإباحة و جواز الارتكاب مع الغاء العلم الاجمالي يمكن القول: بجواز بيع الفرد المحلل و قصده بالبيع خاصة، على انه إنْ كان المناط في الجواز كون المشتري مستحلا فلا وجه لتخصيص ذلك بصورة الاشتباه و لا بقصد بيع المذكى خاصة، و إن كان المناط الاشتباه فلا وجه لتخصيص ذلك بالمستحل. اللهم الا أن يكون المناط حصول الاشتباه مع كون المشتري مستحلا، و هو بعيد، لبُعدِ مدخلية الاشتباه في الحكم فتأمل.

على انه قد يبطل البيع من جهة اخرى و هي عدم القدرة على تسليم المبيع تسليما تاما بحيث ينتفع به المشتري، إذ غاية ما في الباب أن يُسلَّم الجميع و تسليم الجميع لا ينفع، لانه لا يجوز للمشتري التصرف بهذا التسليم فلا يكون تاما شرعا. أ لا ترى انهم قالوا ان تسليم المبيع مشغولا بمال الغير ليس من التسليم الشرعي، و يمكن ان يتطرق اليه البطلان من وجه آخر و هو جهالة المبيع، لانه مجهول العين، على انه مجهول الوزن لو كان من الموزون، فيكون مجهولا من وجهين، فان كان المبيع المذكى خاصة فقد عرفت ما فيه، و إن كان المبيع المجموعَ لزم فتح باب سدها الشارع و لا يريد فتحها، و هي بيع الميتة، و هذا ينافي الحكمة، لأن كل من أراد بيعها خلطها بالمذكى خلطا لا يتميز عنه، و يتوصل بذلك الى بيع الميتة، و هذا مما ينافي الحكمة الباعثة على المنع من بيع الميتة كما لا يخفى، الا أن يخص ذلك بالاشتباه القهري فتأمل.

و أما ما قاله الشهيد (رحمه الله) من عرضه على النار و اختباره بالانبساط و الانقباض (1) فهو مخالف لظواهر النصوص و الفتاوى، و تلك علامة يقتصر فيها على مورد النص و هو اشتباه الحال في الفرد الواحد المشتبه بين الميتة و المذكى لا الاشتباه بين فردين مع يقين موت أحدهما فحينئذٍ الاختبار المذكور في المقام لا يعوّل عليه فتأمّل.


1- الشهيد الأول، الدروس، 3/ 13- 14.

ص: 36

ثانيها: قد ورد في بعض الاخبار ما يقضي بجواز الانتفاع بجلد الميتة، كخبر قاسم الصقيل قال: (كتبتُ الى الرضا (عليه السلام) أني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، فيصيب ثيابي، أ فأصلي فيها؟ فكتبَ اليّ: اتخذ ثوباً لصلاتك، فكتبتُ الى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) كنتُ كَتَبت الى أبيك بكذا و كذا، فصعب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية، فكتب إلي: كلُّ أعمال البرّ بالصبر- يرحمك الله- فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس) (1)، و خبر أبي القاسم الصيقل و ولده قال: كتبوا الى الرجل (عليه السلام): جعلنا الله فداك أنا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرون اليها، و انما غلافها (2) من جلود الميتة من البغال و الحمير الاهلية، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسها بأيدينا و ثيابنا؟ و نحن نصلي في ثيابنا و نحن محتاجون الى جوابك في هذه المسألة يا سيدنا لضرورتنا اليها، فكتب (عليه السلام): (اجعلوا ثوبا للصلاة) (3)، و ما رواه في الفقيه، قال: سُئل الصادق (عليه السلام) عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن، ما ترى فيه؟ فقال: (لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصلّ فيها) (4)، و خبر الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في جلد شاة ميتة يدبغ فيصبُّ فيه اللبن و الماء فأشربُ منه و أتوضأ؟ قال: نعم، و قال: يدبغ و يُنتفع به و لا يُصلّى فيه) (5)، و خبر زرارة المروي في التهذيب عن أبي عبد الله (ع) قال: (سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت، قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت، قال لا بأس به، قلت: و الصوف و الشعر و عظام الفيل و الجلد و البيض يخرج من الدجاجة، قال: كل هذا ذكي لا بأس به) (6)، قلت و رواه في الفقيه بإسقاط لفظة و الجلد (7)، و في الوافي (8) و هو الصحيح، و كأنّ زيادتها سهو من كاتب التهذيب، الى غير ذلك من الاخبار المشعرة بجواز الانتفاع بجلد الميتة.


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 2/ 1050.
2- في الوسائل (علاجنا).
3- الحر العاملي، الوسائل، 17/ 173.
4- المصدر نفسه، 2/ 1051.
5- الشيخ الطوسي، الاستبصار، 4/ 90.
6- الشيخ الطوسي، التهذيب، 9/ 76، الشيخ الطوسي، الاستبصار، 4/ 89.
7- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3/ 342.
8- المحدث الكاشاني، الوافي، 11/ 19، باب ما ينتفع به من اجزاء الميتة.

ص: 37

و الظاهر ان هذه الاخبار كلها محمولة على التقية او مطّرحة لان بإزائها أخبار متكثرة دالة على عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة بالخصوص، كخبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن (عليه السلام) قال: (كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إنْ ذكّي؟، فكتب: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب) (1)، و خبر علي بن ابي المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي ء؟ فقال: لا، قلت: بلغنا ان رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) مرّ بشاة ميتة، فقال: ما كان على اهل هذه الشاة إذْ لم ينتفعوا بإهابها؟ فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم)، و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): ما كان على اهلها إذْ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها، أي تُذكّى) (2)، و خبر سماعة قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها، قال: (إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أما الميتة فلا) (3)، و خبر ابي مريم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (السخلة التي مر بها رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) و هي ميتة قال: ما ضرّ اهلها لو انتفعوا باهابها؟ قال: فقال ابو عبد الله (عليه السلام): لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها مهزولة فذبحها اهلها فرموا بها، قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم): ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها) (4)، و خبر سماعة قال: (سألته عن اكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الغري فقال: لا باس به ما لم تعلم أنه ميتة) (5).


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 16/ 366.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 2/ 1080.
3- الحر العاملي، الوسائل، 2/ 1071.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 2/ 1081.
5- الشيخ الطوسي، الاستبصار، و الكيمخت هو جلد الميتة المملح، و الفرا ما طلي به أو الصق به الورق، الجوهري، الصحاح، 6/ 2445.

ص: 38

و هذه الاخبار مجبورة بالشهرة المحصلة فضلا عن المنقولة بل الاجماع فضلا عن الشهرة مؤيدة بالاخبار الحاصرة للذكي من الميتة بعشرة و ليس الجلد منها، فلا بد من حمل الاخبار المارة على التقية أو على غيرها أو إخراجها اصلا كما لا يخفى، فحينئذ لا وجه لاشكال صاحب الحدائق (1) و الكفاية في جواز بيع جلود الميتة، و دعوى دلالة خبر ابي القاسم الصيقل على ذلك ممنوعة، لأنه تضمن السؤال عن عمل السيوف و بيعها و شرائها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا منضماً. نعم قصراه الدلالة على جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غلافا للسيف من حيث التقرير، و قد عرفت ما فيه، كما ان ما يحكي عن الفاضلين في النافع و الإرشاد من جواز الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة و الشرب (2) مردود بالاخبار المتقدمة المانعة من الانتفاع به مطلقاً.

و كيف كان ففي بعض كتب أصحابنا المتأخرين و لكن الانصاف انه اذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة مقصودة كالاستسقاء بها للبساتين و الزرع إذا فرض عده مالًا عرفاً، فمجرد النجاسة لا تصلح علة لمنع البيع لو لا الاجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق، لأن المانع حرمة الانتفاع في المنافع المقصودة لا مجرد النجاسة، و إن قلنا إنّ مقتضى الادلة حرمة الانتفاع بكل نجس فان هذا كلام آخر سيجي ء بما فيه بعد ذكر حكم النجاسات، لكنّا نقول إذا قام الدليل الخاص على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشي ء من النجاسات فلا مانع من صحة بيعه، لان ما دلّ على المنع عن بيع النجس من النص و الاجماع ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع) (3) انتهى. و هو مما لا باس به إن سلّمنا ما ادّعاه من ظهور ما دلّ على المنع من بيع النجس في كون المانع حرمة الانتفاع، و لكن دون اثبات ذلك الظهور خرط القتاد.

ثالثها: يجوز التكسب بما لا تحله الحياة من ميتة ذي النفس من طاهر العين إن فرض له نفع مقصود من قبيل الشعر و الريش و نحوهما لوجود المقتضي و عدم المانع، كما يجوز التكسب بميتة غير ذي النفس السائلة اذا كانت مما ينتفع بها أو ببعض


1- المحقق البحراني، الحدائق الناضرة، 5/ 516.
2- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 84.
3- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 33.

ص: 39

اجزائها، كدهن السمك الميت (1) للاسراج و التدهين لوجود المقتضي و عدم المانع ايضاً، و لأن ادلة عدم جواز الانتفاع بالميتة مختصة بميتة ماله نفس سائلة، و قد صرح بذلك جمع من اصحابنا، و الظاهر انه مما لا خلاف فيه.

رابعها: المقطوع من بدن الحي من ذي النفس كالمقطوع من بدن الميت اذا كان مما تحله الحياة لا يجوز الانتفاع به و لا الاكتساب وفاقا لبعض من تأخر من اصحابنا. نعم روي في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام)، قال: (سألته عن الرجل يكون له الغنم، يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح أن ينتفع بها؟ قال: نعم، يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها) (2) و عن صاحب الكفاية أنه استوجه العمل بها (3) تبعا لما حكاه الشهيد عن العلامة في بعض اقواله (4)، و الرواية مع كونها شاذة معارضة بالاجماع المنعقد على تحريم الميتة و التصرف فيها على كل حال، بل معارضة بما دلّ على المنع من موردها معللًا بقوله (عليه السلام): (أما علمت انه يصل اليد و الثوب و هو حرام) (5).

التكسب بالدم

و من جملة الاعيان التي يحرم التكسب بها الدم لحرمة الانتفاع به كما عرفت من الاصل المتقدم، و على تقدير جواز الانتفاع به بالصبغ و نحوه، كما يقوله البعض يشكل القول بجواز التكسب به لأن منفعته الغالبة و هي الاكل محرمة، و قد عرفت أن كل ما تحرم منفعته الغالبة يحرم التكسب به، اللهم إلا أن تقول ان الصبغ من المنافع الغالبة المقصودة للعقلاء في مقام المعاوضات.


1- في المخطوطة (الميتة) و ما أثبتناه هو الصحيح.
2- ابن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر، 573.
3- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 252.
4- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 118.
5- الشيخ الكليني/ الكافي، 6/ 255.

ص: 40

و كيف كان فيدل على ذلك أيضا- بعد حكاية الاجماع كما عن النهاية و الايضاح و التنقيح (1) و نفي الخلاف كما في كتب بعض المعاصرين- الاخبارُ المتكثرة.

هذا كله في الدم المسفوح و أما غيره و هو الدم الطاهر، فاما المتخلف بالذبيحة منه فيظهر من جدي المرحوم في بغية الطالب في باب الطهارة حلية أكله حيث قال فيها: و أما المتخلف في الذبيحة فهو طاهر حلال لكنه خلاف ما عليه الاصحاب (2) و لعله (رحمه الله) يريد المتخلف في اللحم و لهذا قيده ولده المرحوم الشيخ موسى في شرح الرسالة بعدم الانفصال، قال: و أما المتخلف فهو طاهر و حلال ما لم ينفصل و هو الاقوى عندي (3).

و كيف كان فعلى القول بحليته لا كلام في جواز التكسب به، و أما على القول بالحرمة فيكون حكمه حكم باقي الدماء الطاهرة كدم ما لا نفس له، و الظاهر جواز التكسب بها (4) فجواز الانتفاع بها منفعة محللة و هي الصبغ و نحوه. هذا إن كانت من المنافع الغالبة المقصودة كما عرفت، و إن لم تكن كذلك فلا يجوز التكسب به، و الظاهر أن تلك منفعة غالبة مقصودة تكفي في جواز التكسب. و عن التذكرة التصريح بعدم بيع الدم الطاهر لاستخباثه (5)، و لعله لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الاكل المحرم بزعمه و قد عرفت ما فيه.

و أما مرفوعة الواسطي المتضمنة لمرور أمير المؤمنين (عليه السلام) على القصابين و نهيهم عن سبعة: بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال الى آخرها (6) فالظاهر ارادة حرمة البيع للأكل، و لا شك في تحريمه لما سيجي ء من أن قصد المنفعة المحرمة في البيع موجب لحرمة البيع، بل موجب لبطلان البيع فتبصر و الله العالم.


1- المقداد السيوري، التنقيح، ورقه 55 ب.
2- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، بغية الطالب، ورقه 24 ب، مخطوط، و اللفظ مختلف.
3- الشيخ موسى كاشف الغطاء، شرح الرسالة (منية الراغب)، ورقة 42 أ، و اللفظ مختلف.
4- يوجد سقط في العبارة.
5- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 581.
6- الشيخ الطوسي، النهاية، 364.

ص: 41

التكسب بالمني

و من جملة الاعيان التي يحرم التكسب بها المني، لما مر من عدم تعلق الملك بالاعيان النجسة، و لهذا كان الولد نماء الام في الحيوانات عرفاً و للأب في الانساب شرعاً. و لو كان مملوكاً لكان بمنزلة البذر المملوك، و لهذا حكم بتبعية الزرع للبذر دون الولد في الحيوانات. و من هنا يظهر مانع آخر من التكسب به و هو عدم الانتفاع به لانه أن وقع خارج الرحم لا ينتفع به المشتري، و كذا لو وقع في باطن الرحم، لما عرفت من ان الولد نماء الام في الحيوانات. و ذكر العلامة من المحرمات بيع عسيب الفحل (1)، و هو ماؤه قبل الاستقرار، و كما أن الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار كما عن جمع من الاصحاب، و ربما علل ذلك بعض اصحابنا بالجهالة و عدم القدرة على التسليم و جميع ما ذكر لا يخلو من نظر. اما دعوى كونه من الاعيان النجسة فلا يتعلق صفة الملك به فانما يسلم فيما وقع خارج الرحم و أما إذا دخل من الباطن الى الباطن فنجاسته في محل المنع، فعدم كونه مملوكا لنجاسته ممنوع، و أما كونه لا ينتفع به لكون الولد نماء الام فذلك مبني على عدم كونه مملوكا و هو ممنوع أيضا، و أما المنع من جهة الغرر و الجهالة و عدم القدرة على التسليم فانما تمنع من العقد الذي يفسده الغرر كالبيع و لا تمنع من العقد الذي يحتمل الغرر و الجهالة كالصلح و نحوه، على انا لو قلنا بنجاسته فوضعُه على الانقلاب يلحقه بالقابل للتطهير او به يكون مستثنى من قاعدة المنع.

و كيف كان فالظاهر انه يصح فيه الصلح و نحوه، فالقول بعدم جواز التكسب به مطلقاً ممنوع. نعم لا يجوز التكسب بما وقع منه خارج الرحم و الله العالم.

التكسب بالابوال و الارواث

و من جملة الاعيان النجسة التي يحرم التكسب بها الابوال و الارواث مما لا يؤكل لحمه اذا كانت له نفس سائلة و تنقيح الكلام (2) يتم برسم مقامات:


1- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 468.
2- إضافة يقتضيها السياق.

ص: 42

المقام الاول: في أبوال ما لا يؤكل لحمه مما له نفس، و الظاهر انه لا اشكال بل لا خلاف في حرمة التكسب بها، لحرمتها و نجاستها و عدم الانتفاع بها منفعة مقصودة للعقلاء.

المقام الثاني: في ارواث ما لا يؤكل لحمه مما له نفس، و الظاهر أنه لا أشكال في عدم جواز التكسب بها بل في كتب بعض المتاخرين بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه، بل المنقول منها مستفيض فعن الخلاف إجماع الفرقة على تحريم بيع السرجين النجس (1)، خلافا لأبي حنيفة، و في محكي التذكرة: (لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعا منا) (2)، و النهاية (بيع العذرة و شراؤها حرام اجماعاً)، و عن المنتهى الاجماع على تحريم بيع العذرة (3)، الى غير ذلك من الاجماعات المنقولة المنجبرة بما دلّ على حرمة بيع الاعيان النجسة التي هذه منها، مضافا الى ما قد عرفته من عدم تعلق صفة الملك بالاعيان النجسة خصوصا العذرات، لحكاية اتفاق علمائنا على عدم تعلق صفة الملك بها بالخصوص، و ان البيع مشروط بالملك لا أقل من انها ليسن متموّلة عرفا، و لهذا لم يجر عليها حكم الاموال من الغصب و السرقة و غيرهما.

هذا كله مضافا الى النصوص المستضيفة التي منها خبر يعقوب بن شعيب (ثمن العذرة من السحت) (4)، و في مرسل الدعائم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليه السلام): (أن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) نهى عن بيع العذرة و قال: هي ميتة) (5)، و ما في سندها من القصور مجبور بما سمعت من الادلة المتقدمة، نعم في رواية مضارب (لا بأس ببيع العذرة) (6) و جمع الشيخ بينهما بحمل الاول على عذرة الانسان و الثاني


1- الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 185.
2- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 464.
3- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1008.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126.
5- النعمان بن محمد، دعائم الإسلام، 2/ 16.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126- 127.

ص: 43

على عذرة البهائم (1)، و لعله لأن الاول نصٌّ في عذرة الانسان، ظاهرٌ في عذرة غيره، بعكس الخبر الثاني، فيطرح ظاهر كل منهما بنص الآخر، و يقرَب هذا الجمع رواية سماعة، قال: (سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن بيع العذرة، و انا حاضر، فقال أني رجل ابيع العذرة، فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها، و قال: لا بأس ببيع العذرة) (2)، فإن الجمع بين حكمين في كلام واحد لمتكلم واحد و مخاطب واحد يدل على ان تعارض الاولين ليس الا من حيث الدلالة، فلا يرجع فيه الى المرجحات السندية أو الخارجية، و يدفع ما يقال ان العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلي هو الرجوع الى المرجحات الخارجية ثمّ التخيير و التوقف لا إلغاء ظهور كل منهما، و لهذا طعن على من جمع بين الامر و النهي. بحمل الامر على الاباحة و النهي على الكراهة.

و كيف كان فالظاهر أن الشيخ (رحمه الله) يريد من عذرة البهائم الارواث الطاهرة و إنْ مثل بالابل و البقر و الغنم، كما انه يريد بعذرة الانسان الارواث النجسة و مثله جملة رواية الجواز في الاستبصار (3) على عذرة غير الآدميين، فيكون مرجع التأويلين الى شي ء واحد؛ اذ لا فرق بين انواع ما يؤكل في جواز البيع كما لا فرق بين انواع ما لا يؤكل في عدم جوازه بل المنقول عنه في المبسوط و الخلاف (4) التصريح بجواز بيع السراجين الطاهرة و المنع من بيع النجسة من دون تفصيل، بل عن الخلاف حكاية إجماع الفرقة على ذلك. قال بعض المتأخرين: فإطلاق كلامه في الاستبصار محمول على إرادة البهائم التي ينتفع بعذارتها غالبا، و لذا خصها بالذكر في التهذيب و لم يذكر غيرها من الحيوانات المأكولة اللحم مع القطع بمساواته لها في الحكم. و من ذلك يعلم أن الشيخ لا خلاف له في المسألة، فما عساه يتوهم من عبارته من جواز بيع عذرة غير الآدمي و ان كانت نجسة في غير محله (5) و احتمل السبزواري حمل خبر المنع على


1- الشيخ الطوسي، الاستبصار، 3/ 56.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126.
3- الشيخ الطوسي، الاستبصار، 3/ 56.
4- الشيخ الطوسي، المبسوط، 2/ 166، الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 185.
5- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 18.

ص: 44

الكراهة (1). و فيه ما لا يخفى من البعد لمنافاته للفظ السحت و الحرام، و لان الجمع بين الاخبار فرع التكافؤ، و لا شك أن رواية المنع اقوى لاعتضادها بما سمعت، و احتمل المجلسي (رحمه الله) خبر المنع على بلاد لا ينتفع به، و الجواز على غيرها. و لا يخفى على المتأمل بعده، لان السؤال عن البيع، و لا شك ان ما لا ينتفع به لا يسأل عن بيعه و احتمل بعض اصحابنا حمل خبر المنع على التقية لكونه مذهب أكثر العامة، و فيه ما لا يخفى من ان في ذلك طرح لأحد الدليلين و الجمع أولى منه.

فظهر مما ذكرنا ان ما ذكرناه في طريق الجمع بين الاخبار أولى. هذا انما ارتكبناه مراعاة لأولوية الحمل من الطرح و إلّا فرواية الجواز لا يجوز العمل بها من وجوه عديدة كما لا يخفى على المتأمل.

و كيف كان فإن قلنا بظهور لفظ العذرة في عذرة الانسان- كما هو المنقول عن جمع من اهل اللغة- فثبوت الحكم في غيرها من عذرة غير مأكول اللحم ينشأ من الادلة المتقدمة التي دلت على المنع من بيع الاعيان النجسة و التكسب بها، و من الإجماعات المتقدمة الدالة على المنع من بيع السرجين النجس، و نُقل عن ظاهر الاردبيلي (2) و الخراساني التوقف في حكم العذرة و غيرها من الارواث النجسة بل الميل الى جواز بيعها كما هو المحكي عن الفاضل القاساني (3)، تمسكاً بالاصل و استضعافا لدليل المنع، و التفاتا الى ظهور الانتفاع بها في الزرع و الغرس و هو ضعيف لانقطاع الاصل بما سمعت من الادلة عامة و خاصة، و لان دليل المنع بعد الوقوف على الاجماعات المتقدمة الجابرة للأخبار التي مرت في غاية القوة، و لان الانتفاع المذكور و ان دلت الادلة على جوازه فهو من المنافع النادرة التي لا تُقابل العينُ من جهتها بالمال و لا تعدّ مالا لذلك، و كيف كان فالظاهر ان المناط في ما يؤكل و ما لا يؤكل حين الخروج لا حين التكوّن مثل موطوء الانسان من الحيوانات.


1- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 84.
2- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 8/ 38.
3- المحدث الكاشاني، الوافي، 10/ 42، باب (ما يحل الشراء و البيع فيه).

ص: 45

و مثله العكس لو تكوّن بوله و روثه حال الحلّية قبل الوطء ثمّ خرج بعد الوطء فهو من غير المأكول. و مثله العكس كما لو تكون حال الجلل و خرج بعد تمام الاستبراء فهو من المأكول. و لا فرق في ذلك بين ان نقول بنجاسة العذرة قبل الخروج من الباطن او بطهارتهما الى ان يخرجا او بنجاستهما و عدم تنجيسهما، فلا يفترق الحال في كون المناط حال الخروج لأنه مساق الادلة في المقام فتبصر و الله العالم.

المقام الثالث: في التكسب في أبوال ما يؤكل لحمه، و قد اختلف اصحابنا في ذلك على اقوال:

أحدها: القول بالمنع من التكسب فيها مطلقا من غير فرق بين أبوال الابل و غيره، و هو المنسوب للعلامة (رحمه الله) في النهاية (1) و الفاضل يحيى بن سعيد في النزهة (2).

ثانيها: القول بجواز التكسب بها مطلقا و هو المنسوب الى الحلي و العلامة في المختلف (3).

ثالثها: القول بالمنع إلا في أبوال الابل للاستشفاء، و هو المنسوب الى الشيخين (4) و سلار (5) و أتباعهما و هو المختار، فلنا دعويان:

إحداهما: المنع من التكسب فيما عدا بول الابل.

ثانيتهما: جواز التكسب ببول الابل.

أما الدعوى الاولى فمستندها أمور:

أحدها: حرمة شرب الابوال المذكورة، و لا اشكال في كون منفعتها الغالبة الشرب، و متى حرمت المنفعة الغالبة المقصودة حرم التكسب بها. أما تحريم شربها فللقطع باستخباثها كما هو الظاهر، أو لاحتماله الموجب لاجتنابه من باب المقدمة للأمر


1- العلامة الحلي، نهاية الأحكام، 2/ 463.
2- ابن سعيد الحلي، نزهة الناظر، 78.
3- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 5/ 5.
4- الشيخ المفيد، المقنعة، 587، الشيخ الطوسي، النهاية، 364.
5- سلار، المراسم العلوية، 172.

ص: 46

باجتناب الخبيث الواقعي الذي لا يتم الا باجتناب جميع المحتملات و للاولوية المستفادة من تحريم الفرث و المثانة التي هي مجمع البول بناءً على بعدهما- بالاضافة الى البول- عن القطع بالخباثة، فتحريمهما مع ذلك يستلزم تحريم البول القريب من القطع بالاستخباث بالاضافة اليهما بطريق أولى، و يؤيد الاولوية المذكورة ظهور النصوص في أشدّية حكم البول من الدواب الثلاثة بالنسبة الى الروث حتى ظن جماعة الفرق بينهما فحكموا بنجاسة البول دون الروث. فاذا ثبت تحريم الاضعف، و هو الروث، ثبت تحريم الاشد، و هو البول بطريق اولى، و متى ما ثبت حرمة أبوال الدواب الثلاثة ثبت حرمة أبوال غيرها لعدم القائل بالفرق. و أما كون الشرب هو المنفعة الغالبة هنا فأمر واضح، و أما انه كلما حرمت منفعته الغالبة حرم التكسب به فقد اثبتناه في ما مر مفصلا.

هذا مع انه يمكن الاستناد بعد إثبات تحريمها في حرمة التكسب بها الى قوله (عليه السلام): (اذا حرم الله شيئا حرم ثمنه) (1)، و قوله (عليه السلام): (لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها) (2) فتأمل.

ثانيها: عدم أجراء حكم الاموال بل أحكام الاملاك عليها عرفا، و لهذا لا يتعلق بها حكم الاموال من السرقة و الغصب و الاتلاف، و متى ما سقطت عن حكم المالية عرفا لم يجز التكسب بها، لان ما لا يعد في العرف مالا لا يجوز التكسب به.

ثالثها: ما يحكى عن كشف الرموز (3) من ان مستند المنع عموم الاخبار الواردة بالمنع من التصرف في الابوال، فإن مقتضاه ورود نصوص بالمنع و إن لم نجدها في كتب الحديث، و يشهد له فتوى الشيخ في النهاية بالمنع (4)، مع انها متون اخبار كما صرح به


1- البيهقي، السنن الكبرى، 3/ 7، بتغيير في الألفاظ.
2- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، 1/ 247.
3- الفاضل الآبي، كشف الرموز، 1/ 436.
4- الشيخ الطوسي، النهاية، 362.

ص: 47

غير واحد من الاصحاب و يؤيده ما يحكى عن ابن ادريس في دره حيث يقول: إنّ هذا خبر أورده شيخنا إيراداً لا اعتقاداً (1).

و أما الدعوى الثانية فمستندها الإجماع المنقول عن جامع المقاصد (2) و ايضاح النافع (3) و هو العمدة في الباب. و خلاف العلامة في النهاية (4) و ابن سعيد (5) لا يقدح بذلك كما لا يخفى، و ما يقال من جواز شربها اختياراً استنادا الى اجماع المرتضى (6) على جواز شرب أبوال مأكول اللحم اختيارا، و شموله لأبوال غير الابل لا يقدح في الاستدلال فيكون المقتضي موجودا و المانع مفقودا، فيجوز التكسب بها حينئذٍ- مما لا وجه له لمنع الاجماع المذكور بشهادة قضية التتبّع بخلافه، خصوصا بعد شموله لا بوال غير الابل، كما أن قضية الوجدان تشهد باستخباث بول الابل و انه مشارك لغيره في الاستخباث الموجب للتحريم، و ما ادعاه- بعض المحققين من منع استخباثه، لان العرب لا تستخبثه بل تتداوى به و تشربه عند إعواز الماء و قلته، و هم المرجع في التمييز بين الطيبات و الخبائث- ففيه أن دعوى انهم المرجع في التمييز بعد ما نشاهده منهم من تناول المحرمات و عدم اجتناب الخبائث و اكل الضب و اليربوع و كل ما دبّ و درج مشكل جدا.

و دعوى دلالة الاخبار على جواز شرب أبوال الابل اختياراً واضحة المنع، لان الاخبار (منها أن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلّم) امر قوما اعتلّوا بالمدينة ان يشربوا الابوال فشُفوا) (7)، و منها خبر الجعفري عن الكاظم (عليه السلام): (أبوال الابل خير من ألبانها،


1- ابن إدريس، السرائر، 2/ 19، بتقديم و تأخير في الألفاظ.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 13.
3- المختصر النافع للمحقق الحلي، 246.
4- العلامة الحلي، نهاية الأحكام، 1/ 65.
5- يحيى بن سعيد، نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر، 78.
6- الشريف المرتضى، الانتصار، 424- 425.
7- سنن الترمذي، الترمذي، 1/ 49، و ما في الترمذي يختلف لفظه كلياً.

ص: 48

و يجعلُ الله الشفاء في ألبانها) (1)، و منها خبر سماعة (انه سئل الصادق (عليه السلام) عن شرب ابوال الابل و البقر و الغنم للاستشفاء، قال: نعم لا بأس به) (2) و منها خبر سماعة: (سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن بول الابل و البقر ينتفع به من الوجع، هل يجوز ان يشرب؟ قال: لا بأس) (3)، و منها موثقة عمار (عن بول البقر يشربه الرجل، فان كان محتاجاً اليه يتداوى بشربه، فلا بأس و كذلك بول الابل و الغنم) (4)، الى غير ذلك من الاخبار. و هي كما ترى كلها انما دلت على جواز شرب الابوال المذكورة عند الضرورة المبيحة للمحرّم. أ لا ترى إنه (عليه السلام) لم يقتصر فيها على بول الابل بل الحقَّ به بول البقر و الغنم، بل قوله (عليه السلام): (و كذلك بول الابل و الغنم) (5) يشعر بما ذكرناه اتمّ اشعار، خصوصا بعد ان كان السؤال عن بول البقر خاصة.

و دعوى انه لو كان كذلك لم يكن وجه لاختصاص بول الابل بذلك، فلا بد من حمل الاخبار على الحاجة غير الموصلة الى حد الضرورة كما يقضي به خبر سماعة. قلت:

أولًا: لا اختصاص لبول الابل كما هو صريح الاخبار المذكورة.

ثانياً: على تقدير حمل الاخبار على الحاجة غير الموصلة الى حد الضرورة فلا اختصاص لبول الابل أيضا، بل بول الغنم و البقر كذلك كما هو صريح الاخبار. على أنّا نقول ان الاخبار لا دلالة لها على جواز شرب البول المذكور اختياراً، بل يجوز ذلك إما عند الضرورة أو الحاجة، و متى ما كان محرما اختياراً لا يجوز التكسب به و إلا لجاز التكسب بكل محرم، لأنه يحل عند الضرورة.


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 87.
2- الفاضل الهندي، كشف اللثام، 2/ 268.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 88.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة 17،/ 87.
5- المصدر نفسه، 17/ 87.

ص: 49

فان قلت: ما الفرق بينه و بين الادوية التي لا تحل الا عند الاضطرار اليها؟ قلت: الفرق بينهما عرفي، فان اهل العرف يعدّون الادوية مالا و لا يعدون المحرم مالا و إن حلّ عند الضرورة، و يمكن الفرق بأن حلية الادوية حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدّل عنوان الضرر بعنوان النفع و هو أمر غير التحليل للضرورة و كذلك التحليل عند الحاجة لا يجوّز التكسب لقوله (عليه السلام): (إذا حرّم الله شيئا حرُم ثمنه) (1) مطلقاً و إن حلّ عند الضرورة، إذ لو كان المراد من الخبر أن كلّ ما حرّم الله شيئاً في كل الاحوال حرّم ثمنه لما حرم ثمن شي ء، لانه ما من شي ء إلى و يحلُّ في حال من الاحوال، فاذا كان مفاد الدليل ذلك كان التكسب بالأبوال المذكورة محرّما و إن حلّت عند الاضطرار و الحاجة، فالعمدة في الباب إنما هو الاجماع المتقدم.

و هل جواز التكسب به بقصد الاستشفاء من المتبايعين أو من المشتري خاصة أو لا يتقيّد؟، وجهان مبنيان على أن التعليل في كلام القوم للاستثناء أو للمستثنى. و لعل الاقتصار في الجواز على قصد شرائه للاستشفاء أولى، كما أن الأولى الاقتصار في الجواز على مقدار الحاجة، و المرجع في معرفة الداء و ما به الاستشفاء الى التجربة و قول الطبيب. و لعل السر في انعقاد الاجماع على جواز التكسب به للاستشفاء دون غيره مع ان غيره من أبوال مأكول اللحم يجوز الاستشفاء به مع الضرورة، مع ان كثرة الاضطرار الى التداوي و الاستشفاء به صيّرته مالا دون غيره، فانه و إن جاز الاستشفاء به عند الضرورة الا انها لا تدعو الى ذلك الا نادرا فيكون الاستشفاء ببول الابل من المنافع الغالبة التي يعد من جهتها مالا دون الاستشفاء بغيره من الأبوال، فانه لا يعد الاستشفاء بها من المنافع الغالبة التي يكون من جهتها مالا، فيكون الاستشفاء بها عند الضرورة كتحليل بقية المحرمات عند الضرورة، فكما لا يجوز التكسب ببقية المحرمات و إن حلت عند الاضطرار لا يجوز التكسب بغير بول الابل، و إن جاز الاستشفاء به عند الضرورة، أو إن السر ما تخيّله البعض من أن بول الابل يجوز الاستشفاء به عند


1- علي بن عمر الدار قطني، سنن الدار قطني، 3/ 7، الطوسي، الخلاف، 3/ 184.

ص: 50

الحاجة غير الموصلة الى حد الضرورة للنص دون غيره من الابوال، فلا يجوز الاستشفاء به الا عند الضرورة. و هذا مشكل، لما عرفت من التساوي بينه و بين بول البقر و الغنم في الاخبار. على أنه لا يخلو عن تأمل. أحتج المجوّز للتكسب بأبوال ما يؤكل لحمه مطلقا من غير فرق بين بول الابل و بين غيره، و هم صنفان:

صنف جوّز شربها اختياراً، و استند الى انها يجوز الانتفاع بها في الشرب و هي منفعة غالبة مقصودة للعقلاء، و كل عين يجوز الانتفاع بها كذلك يجوز التكسب بها. أما الكبرى فثابتة بما مرّ، و أما الصغرى فثابتة بالاصل و الاجماع الذي حكاه المرتضى في الانتصار (1) على جواز شربها اختياراً و بالموثق (كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه) (2)، و بالاخبار المتكثرة المتقدمة الدالة على جواز التداوي و الاستشفاء ببول الابل و البقر و الغنم، و حملُها على الضرورة المجوّزة لذلك مسقط لخصوصية بول الابل مع ان فيها ما هو صريح بذلك كقوله (عليه السلام): (بول الابل خير من ألبانها، و يجعل الله الشفاء في ألبانها) (3)، هذا مع المناقشة في أدلة التحريم من منع القطع بالاستخباث الموجب للتحريم، و عدم كفاية الاحتمال لعموم أدلة الحِل كتابا و سنة، فكما ان احتمال النجاسة لا يوجب الاجتناب، فكذلك احتمال الاستخباث لا يوجب الاجتناب.

و دعوى أن التكليف باجتناب الخبيث غير مشروط بالعلم بالخباثة، بل هو مطلق، و من شأنه توقف الامتثال فيه بالتنزه عن محتملاته، و ان هو الا كالتكليف باجتناب السمومات و المضرات ممنوعة، لان مبنى الحرمة في السمومات و المضرات على الخوف و المخاطرة و نحوهما مما يكفي فيه الاحتمال المعتد به، بخلاف الاول الذي قد يُدّعى عدم تحقق الخباثة في نفس الامر فيه لان مبناها النفرة الوجدانية، و الفرض انتفاؤها فلا يتصوّر تحققها في نفس الامر، و مع التسليم فلا يجب الاجتناب لعمومات الحِل كتابا و سنة كما مرّ. و منع الاولوية المدّعاة بالنسبة الى المثانة التي هي مجمع البول لان تحريم


1- الشريف المرتضى، الانتصار، 424.
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 266.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 87.

ص: 51

المثانة اما للنص المجبور بالشهرة كما علم في محله، و أما للإجماع. و الاولوية المدعاة في كون التحريم في المثانة للاستخباث، و هو ممنوع، فالاولوية المدّعاة ممنوعة.

على ان حصر محرمات الذبيحة في ما عدا البول في النصوص و اسقاط البول و عدّ ما سواه مما يشعر بتحليلِه و منعِ ما ذكر في زيادة وجه الاولوية بالنسبة الى أبوال الدواب الثلاثة و ارواثها، اذ دلالة النصوص على أشدّية البول لا تقتضي حرمة الاسهل و هو الروث حتى تقتضي حرمة الاشد و هو البول، خصوصا بعد حمل تلك النصوص على ضرب من الكراهة و لو من جهة الخباثة التي لم تصل الى حد يوجب التنجيس، و الجميع كما ترى.

اما الاصل فمقطوع بما دلّ على التحريم، و أما اجماع المرتضى (1) فمردود بشهادة التتبّع بخلافه. و أما الموثق فلا يدل الا على الطهارة، و أما الاخبار الواردة في ابوال الابل و البقر و الغنم فلا تدل الا على جواز شربها للتداوي عند الحاجة، فان اريد منها الضرورة فلا ريب انها مسوّغة لتناول جميع المحرمات و ان اريد ما هو اعم من ذلك كان اعتبار الحاجةِ في الاباحة اختيارا مخالفا للإجماع فيتعيّن طرح الاخبار لذلك، و أما المناقشة في ادلة التحريم، فاما منع القطع بالاستخباث فهو مكابرة في مقابلة العيان و الوجدان، و أما دعوى جواز ارتكاب محتمل الاستخباث فلا يضرنا بعد القطع بالاستخباث، كما انا لمناقشة في زيادة الاولوية لا تفيد الخصم.

هذا مع انا لو سلمنا الصغرى فلا نسلّم الكبرى و نمنع الملازمة بين ما يجوز شربه و ما يجوز التكسب به. نعم لو عُدّ في العرف مالا لذلك جوّزنا التكسب به، مع ان الرجوع الى العرف يقضي بخلافه كما عرفت من عدم اجراء احكام الاموال عليه عرفاً.

و من هنا ظهر لك ما في بعض عبائر من عاصرناه حيث قال فرعان:

الاول: ما عدا بول الابل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارته عند المشهور. إن قلنا بجواز شربها اختيارا- كما عليه جماعة من القدماء و المتأخرين، بل عن المرتضى دعوى الاجماع عليه- فالظاهر جواز بيعها، و ان قلنا بحرمة شربها كما هو


1- الانتصار، الشريف المرتضى، 424.

ص: 52

مذهب جماعة آخرين لاستخباثها ففي جواز بيعها قولان (1) فإنه صريح في جواز البيع على تقدير القول بجواز الشرب، بل صريحه ترتيب الخلاف على القول بحرمة الشرب.

و فيه ما لا يخفى من منع الملازمة، لان جواز البيع يتبع المالية عرفاً، و لا ملازمة بين جواز الشرب و بينها كما لا يخفى. أ لا ترى ان الماء على ساحل البحر يجوز شربه و لا يجوز بيعه لعدم ماليته.

و صنف حرم شربها اختيارا و اجاز بيعها و التكسب بها استنادا الى ان لها منفعة ظاهرة و هي الشرب و لو عند الضرورة، و هي كافية في جواز البيع، و الفرق بينها و بين ذي المنفعة غير المقصودة حكم العرف بأنه لا منفعة فيه.

و فيه ان اصل المنفعة المذكورة مجوّزةً للبيع يستلزم تجويز بيع جميع المحرمات، لان ما من محرّم الا و يجوز اكله عند الضرورة، مع ان النبوي (ان الله اذا حرّم شيئا حرم ثمنه) (2)، قاض بعدم جواز بيعها، لان مفاده ان كل ما حرم حال الاختيار حرم ثمنه مطلقا؛ لأن الله لم يحرّم شيئا في جميع الاحوال فلا يبقى للدليل موردٌ إذا اريد منه ذلك، و المفروض ان الأبوال محرمة حال الاختيار.

فان قلت: و ان حرم شربها لكنها غير محرمة الانتفاع مطلقا بل يجوز الانتفاع بها بغير الاكل فلا تكون موردا للدليل. قلت: المراد من قوله (اذا حرّم شيئا حرُم ثمنه) يعني اذا اطلق تحريم (أي) (3) شي ءٍ كان قال: (هذا حرام) و اطلاق التحريم ينصرف الى تحريم جميع المنافع او الى تحريم المنفعة الظاهرة و هي في الأبوال الشرب.

فلا ينتقض ذلك بالطين المحرم الاكل مع انه يجوز بيعه لان الاكل منفعة نادرة للطين، أو غيرها اهم منها، بخلاف الأبوال فان منفعتها الظاهرة الشرب كما لا يخفى، و لا ينتقض ذلك بالادوية المحرمة حال الصحة.

مع انه يجوز بيعها لحليتها حال الضرورة و هو حال المرض، لان التحريم حال الصحة للضرر و تحليلها حال المرض للنفع، فهو من تبدّل العنوان لأنها محرمة ذاتا و قد


1- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 17.
2- البيهقي، السنن الكبرى، 6/ 13، بتغيير في الألفاظ.
3- إضافة يقتضيها السياق.

ص: 53

حلّت للضرورة، و لو كان كل ما يحرم في حال و يحل في آخر يحرم بيعه لما جاز بيع شي ء، لان كل شي ء قد يحرم في حال فتبصّر.

و على ما ذكرنا ينزل خبر تحف العقول حيث يقول فيه: (و كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من الجهات) فان المراد منه جهة الصلاح الثابتة حالة الاختيار دون حال الضرورة. نعم يقال أن الشيخ في الخلاف في باب الأطعمة روى النبوي (أن الله اذا حرم أكل شي ء حرم ثمنه) و هو مردود بضعف السند و عدم الجابر له متناً و دلالةً، مع أنه معارض بجملة من الأدلة في مقامات عديدة هذا و قد ظهر مما ذكرنا دليل المانع من التكسب بالابوال مطلقا و هو مردود في أبوال الابل بالاجماعين المنقولين عن الايضاح (1) و جامع المقاصد (2)، كما عرفت.

المقام الرابع: في التكسب في ارواث ما يؤكل لحمه، و الظاهر انه لا كلام و لا اشكال في جواز بيعها اذا كانت لها منفعة محللة مقصودة بل عن الخلاف نفي الخلاف فيه (3) و عن المرتضى حكاية الاجماع عليه (4)، و يحكى عن سلّار (5) و عن المفيد (6) حرمة بيع العذرة و الابوال كلها إلا بول الابل للاستشفاء، و ليس له مستند سوى تحريم الخبائث بدعوى ان التحريم يعم جميع انواع الانتفاعات حتى البيع و نحوه، و قد عرفت غير مرة ان المراد من التحريم في ذلك الاكل خصوصا بعد مقابلته (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ) (7) و سوى قوله (عليه السلام): (كلما حرّم الله شيئا حرم ثمنه) (8)، و قد عرفت ايضا ان المراد تحريم جميع الانتفاعات أو تحريم المنفعة الغالبة المقصودة و منفعة الروث


1- المختصر النافع للمحقق الحلي، 246.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 13.
3- الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 185.
4- الشريف المرتضى، الناصريات، 86.
5- سلار، المراسم العلوية، 172.
6- الشيخ المفيد، المقنعة، 587.
7- المائدة، 4.
8- الطوسي، الخلاف، 3/ 184، باختلاف قليل في الألفاظ.

ص: 54

الظاهرة الغالبة الايقاد و نحوه دون الاكل فهو كالطين و شبهه، و سوى خبر الدعائم. ثمّ ان الحلال من البيوع كل ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و مباحٌ لهم الانتفاع، و ما كان محرما اصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه، و في دلالته نظر واضح كما لا يخفى.

التكسب بالكلب و الخنزير البريين

و من جملة ما يحرم التكسب به الكلب و الخنزير البريان، و المراد بالكلب هنا كلب الهراش، و عن التحرير حكاية الاجماع على حرمة التكسب بما عدا الكلاب الاربعة (1)، و عن التذكرة الكلب ان كان عقوراً حرم بيعه عند علمائنا (2) و عن المبسوط انه لا يصح بيع الخنزير و لا اجارته و لا الانتفاع به اجماعاً (3). هذا كله مضافا الى ما مرّ من عدم قبولها الملك. و كما لا يجوز بيعهما لا يجوز بيع اجزائهما من غير فرق بين ما تحله الحياة منها و بين ما لا تحله، لنجاسة الجميع كما عرفت ذلك في كتاب الطهارة مفصّلًا، فجميع ما دلّ على عدم جواز بيع الاعيان النجسة يدل عليه.

نعم خالف في ذلك المرتضى فذهب الى طهارة ما لا تحله الحياة من أجزائهما (4) فيلزمه القول بجواز التكسب به، لان له منفعة مقصودة للعقلاء، و عبّر في الشرائع ب (الخنزير و جميع أجزائه و جلد الكلب و ما يكون منه) (5) و لعله لبيان ان الخنزير لا يجوز بيع جملته و لا أجزائه، و الكلب لا يجوز بيع أجزائه و ان جاز بيع جملته، كما في الكلاب الاربعة، و لهذا عدل عن لفظ الكلب الى جلد الكلب و ما يكون منه، و يحتمل أن يرجع ضمير منه الا الكلب و إلى الجلد.

و كيف كان فعدم جواز بيع كلب الهراش البري مما لا كلام فيه، و انما قيدناه بالبري لاخراج كلب الماء، فانه يجوز بيعه و التكسب به، لقبوله التذكية و الانتفاع بجلده حتى ان جمعا من اصحابنا ذهبوا الى أن الخزّ جلد كلب الماء فراجع و تأمّل. و قد نقل عن المقنع (6) و مطاعم القواعد (7) جواز الاستقاء بجلد الخنزير لغير الطهارة، و عليه فالظاهر جواز التكسب به لأنها من المنافع المقصودة للعقلاء اللهم الا ان تقول انه لا دليل عندنا


1- العلامة الحلي، تحرير الأحكام، 1/ 160.
2- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 464.
3- الشيخ الطوسي، المبسوط، 2/ 165- 166.
4- الشريف المرتضى، الناصريات، 100.
5- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، 2/ 263.
6- ما في المقنع (و إياك ان تجعل جلد الخنزير دلواً تستقي به الماء) الشيخ الصدوق، المقنع، 419.
7- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 3/ 333.

ص: 55

على جواز التكسب بكل ما يجوز الانتفاع به، و على تقدير ثبوت ذلك فهو اصل، فما دلّ على عدم جواز التكسب بالأعيان النجسة، و ما دل على عدم جواز التكسب بالكلب و الخنزير الشامل لهما و لجميع أجزائهما يخصص ذلك الاصل، و أما شعر الخنزير فقد جزم العلامة في القواعد في المطاعم (1) بحرمة استعمال شعره و هو المحكي عند السرائر (2)، و ظاهرهما الاطلاق، بل عن السرائر ان الاخبار بذلك متواترة و ان نقل عن من ادعى ممن تأخر عنه عدم العثور على خبر واحد يدل على ذلك، و عن العلامة في المختلف (3) جواز استعماله فيما لا يشترط بالطهارة و تبعه على ذلك الفاضل الهندي (4)

سواء أضطر الى استعماله او لا، و قيده جمع من اصحابنا بصورة الاضطرار، و هم ان ارادوا بالاضطرار الضرورة المبيحة لكل المحرمات فلا وجه للتقييد، و ان ارادوا بالضرورة و لو عدم كمال العمل بدونه كان مخالفا لنا في الفتوى. و الاقوى عدم جواز استعماله مطلقا الا في مقام الضرورة المبيحة لكل محرم كما هو المشهور بين أصحابنا، و قد ادّعى في السرائر (5) تواتر الاخبار على ذلك كما سمعت. و أما ما ورد في خبر برد الاسكاف (6)

و سليمان الاسكاف (7) من جواز استعمال ما لا دسم له فهو مردود بعدم القول بهذا التفصيل من أصحابنا.

التكسب بالمرتد الفطري

و من جملة ما يحرم التكسب به من اعيان النجاسة المرتد الفطري بناء على عدم قبول توبته كما صرح به جماعة من أصحابنا (رضي الله عنهم)، حتى ان جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرح القواعد قال في قول العلامة (ما لا يقبل التطهير من النجاسات) أحترز عما يقبله


1- المصدر نفسه، 3/ 333.
2- ابن ادريس، السرائر، 3/ 114.
3- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 8/ 323.
4- الفاضل الهندي، كشف اللثام، 2/ 271.
5- ابن إدريس، السرائر، 3/ 114.
6- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3/ 349.
7- لم أعثر على خبر بهذا المعنى لسليمان الإسكاف في ما راجعت من مصادر الحديث.

ص: 56

و لو بالاسلام كالمرتد و لو عن فطرة على أصح القولين (1)، و قال في مفتاح الكرامة: (أما المرتد عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدا لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير) (2) ثمّ ذكر جماعة ممن جوّز بيعه إلى أن قال: (و لعل من جوّز بيعه بنى على قبول توبته) انتهى.

و ظاهرهما بل صريحهما ان بيع المرتد الفطري مبني على قبوله التطهير بالاسلام، و هو مشكل جدا، لان ما يتوقف الانتفاع به على تطهيره يتوقف جواز بيعه على قبوله التطهير و عدمه، كالماء و نحوه، و أما ما لا يتوقف الانتفاع به على تطهيره كالكلاب الاربعة فانه يجوز بيعها و ان لم تقبل التطهير. و الكافر نظيرهما، فدعوى ان القول بجواز بيع الكافر انما هو لقبوله التطهير بالاسلام، و القول بجواز بيع المرتد مبني على القول بقبول توبته، فان قلنا به جاز بيعه و الا فلا كما ترى، بل ربما ادّعى بعض من تأخر من اصحابنا ان الاجماع منعقد على عدم كون المانع من بيعه عدم قبوله التطهير بالتوبة، و مما يؤيد ما ذكرناه بناء الاصحاب على كون المرتد عن فطرة و ان لم نقل بقبول توبته مملوكا لمالكه و مالا له، و يجوز الانتفاع به و الاستخدام ما لم يقتل.

نعم ربما يكون المانع من صحة بيعه كونه في معرض القتل و كونه واجب الاتلاف شرعا، فلا يدخل من هذه الجهة في الاموال و الماليّة معتبرة في صحة البيع. و عن الشهيد في المسالك (3) في رهن المرتد جواز رهنه، لبقاء ماليته الى زمان القتل و هو من الوهن بمكان كما لا يخفى. و لعل من يبني الجواز- على قبوله التطهير و عدمه يريد هذا المعنى، لبقاء ماليته على القول بقبوله التطهير لقبول توبته، و عدم بقائها على القول بعدم القبول- لا يريد ان النجاسةَ من حيث هي مانعٌ، و لكنه خلاف ما يظهر من عباراتهم.

هذا في المرتد عن فطرة، و أما الكافر الاصلي و المرتد عن ملة فالظاهر جواز بيعه بلا خلاف ظاهر بل ادّعى عليه الاجماع جماعة، و ليس بالبعيد كما لا يخفى على من تتبع موارد كلامهم في مظان المسألة و الله العالم.


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 12.
2- السيد محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 12.
3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 4/ 25.

ص: 57

التكسب بالعصير العنبي
اشارة

و من جملة الاعيان التي يجوز بيعها و التكسب بها العصير العنبي إذا غلا و اشتد و لم يذهب ثلثاه لعمومات البيع و التجارة، و لأصالة بقاء ملكيته و ماليته، و عدم خروجها عنها بالنجاسة، غاية الامر انه مال معيوب قابل لزوال عيبه بالنقص، فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير فلا تشمله رواية تحف العقول و لا

قوله (عليه السلام): (إذا حرّم شيئاً حرم ثمنه)

(1) لأن نجاسته و حرمة شربه عرضيان، و الظاهر من الخبرين المتقدمين إرادة الاعيان النجسة و المحرمة بقول مطلق لا ما يعرض له النجاسة في حال دون آخر، بل و لا يشمله معقد اجماع التذكرة (2) على فساد بيع نجس العين، لان المراد بالعين الحقيقية و العصير ليس منها، و في بعض كتب المتأخرين و يمكن أن ينسب القول بجواز بيع العصير العنبي الى كل من قيد الاعيان النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير، و عن مفتاح الكرامة انه استظهر المنع من بيعه للعمومات و خصوص الاخبار مثل

قوله (عليه السلام): (و إن غلا فلا يحل بيعه)

(3)، و

قوله (عليه السلام): (إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس)

(4)، و

قوله (عليه السلام): (إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه)

(5). و في الجميع نظر، أما العمومات ففيها ما عرفت، و أما الاخبار الخاصة فهي منزّلة على النهي عن بيعه من غير اعتبار الاعلام، أو هي كناية عن عدم جواز الانتفاع به قبل ذهاب الثلثين، فلا تشمل بيعه بقصد التطهير مع أعلام المشتري، و كيف كان فالظاهر أنه يكفي في جواز بيعه بقاء ماليته و الله العالم.


1- البيهقي، السنن الكبرى، 6/ 13، الطوسي، الخلاف، 3/ 184.
2- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 464.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 170.
4- المصدر نفسه، 12/ 169.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 17/ 227.

ص: 58

هذا كله في أعيان النجاسات، و أما المتنجس بالعارض فالظاهر جواز الانتفاع به، و كونه مملوكا كما ان الظاهر جواز تمليكه مجانا و بالعوض. أما جواز الانتفاع به فالأصل جواز الانتفاع بالأعيان المتنجسة إلا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب و الاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال وفاقا لأكثر أساطين المتاخرين، و صرح جمع من اصحابنا المعاصرين بان القاعدة فيه المنع من التصرف الا ما خرج بالدليل كالاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء و بيعه ليعمل صابوناً على رواية، و الاقوى الاول، لأصالة الجواز و قاعدة حل الانتفاع بما في الارض، و لا دافع لذلك سوى ما يُتخيَّل من بعض الآيات و الاخبار و الاجماعات المنقولة، و الكل فيه ما فيه.

أما الآيات فمنها قوله تعالى في آية (الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (1) فانها دلت على وجوب اجتناب كل رجس، و الرجس النجس. و فيه ان الظاهر من الرجس ما كانت ذاته كذلك لا ما عرض له ذلك مع انها لو عمت ذلك للزم اجتناب كل متنجس مع ان اكثر المتنجسات لا يجب اجتنابها، فيكون خارجها اكثر من داخلها، مع أن الآية إنما أمرت باجتناب ما كان رجسا من عمل الشيطان، فأما أن يكون المراد منها أن ما كان ذاته رجساً من عمل الشيطان كالخمر النجس و الميسر النجس معنى يجب اجتنابه- و عليه فلا تشمل الآية المتنجس بالعارض فانه ليس من عمل الشيطان- و أما أن يكون المراد منها الامر باجتناب الاستعمال على حذف مضاف في صدر الآية و يكون الغرض انما استعمال الخمر و الميسر، و عليه فيكون المأمور باجتنابه كل استعمال ثبت كونه رجساً، و لم يثبت كون استعمال الاعيان المتنجسة بالعارض رجس. و كيف كان فالآية لا تدل على المطلوب.

و منها قوله تعالى: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (2) بناء على ان الرُّجز النجس. و فيه ان المراد بالرجز ما كان كذلك في ذاته فلا تشمل المتنجس بالعارض. و منها آية تحريم الخبائث (3) بناء على أن كل متنجس خبيث. و فيه أن الظاهر من ذلك تحريم اكلها بقرينة قوله تعالى


1- المائدة، 90.
2- مدثر، 5.
3- مائدة، 3.

ص: 59

(أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ) (1). و أما الاخبار فمنها خبر تحف العقول حيث قال فيه: (أو شي ء من وجوه النجس فان ذلك كله حرام محرم للنهي عن أكله و شربه و امساكه و جميع التقلب فيه، فجميع التقلب في ذلك حرام) (2) و فيه أن المراد بوجوه النجس الاعيان النجسة دون المتنجسة. و منها الامر بإهراق بعض المائعات المتنجسة في بعض الاخبار (3). و فيه ان ذلك كله كناية عن عدم الانتفاع بها في الاكل و الشرب، و أما الاجماعات فمرهونة بقضية التتبع، فإنّ تتبع كلام القوم يقضي بخلافها.

فتلخص مما ذكرنا أنه يجوز الانتفاع بالاعيان المتنجسة الا ما دلّ الدليل على خلافه، و الظاهر أنها مملوكة، لاستصحاب ملكها قبل ملاقاة النجاسة لها، و ليس عندنا في الادلة ما يقتضي خروجها عن الملك بملاقاة النجاسة. و متى كانت مملوكة لها منافع محللة جاز تمليكها مجانا، لان كل مملوك يجوز الانتفاع به يجوز تمليكه مجانا، و الظاهر ايضا انها يجوز تمليكها بالعوض، لان لها منافع محللة مقصودة للعقلاء تُحسب من جهتها مالا عرفا. و كل مملوك يكون كذلك يجوز تمليكه بالعوض الا إذا أدل الدليل على عدم جواز ذلك. إذا عرفت ذلك فالمتنجس إما أن يكون جامداً أو مائعاً، و المائع إما أن يكون قابلًا للتطهير أولا، فينبغي البحث في مقامات ثلاثة:

المقام الاول: في الجامد

و لا خلاف بين اصحابنا في جواز بيعه كما أن عمومات البيع تقضي به. نعم في المحكي عن المبسوط التفصيل بين ما كانت نجاسته ثخينة تمنع من النظر اليه، و بين ما كانت نجاسته رقيقة لا تمنع من النظر اليه، فمنع من بيع الاول و جوّز بيع الثاني، و استند في المنع من بيع الاول مرة الى جهالة المبيع لمنعها من الاطلاع عليه و أخرى الى انضمامها اليه في البيع (4)، و كلاهما مردودان، أما الاول فكونه خروج عن محل الكلام، لأن الكلام من حيث النجاسة لا من حيث الجهالة، و إلا لو فرض التصاق


1- مائدة، 5.
2- ابن شعبة، تحف العقول، 247، بتغيير في الألفاظ.
3- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 1/ 229.
4- الشيخ الطوسي، المبسوط، 2/ 167.

ص: 60

شي ء طاهر به يمنع النظر و المشاهدة بحيث يكون المبيع مجهولا لم يصح بيعه. و أما الثاني فظاهر المنع لان انضمامهما مع المبيع يتبع قصد المتعاقدين، فان قصدا ذلك بطل و الا فلا، على ان التفصيل حينئذ بين الرقيقة و الثخينة مما لا وجه له. هذا كله في جواز بيعه، و أما وجوب الاعلام بالنجاسة فكلام آخر يأتي إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني: في المائع

الذي يقبل التطهير كالماء المتنجس، و المعروف بين اصحابنا (رحمهم الله) جواز بيعه لإمكان تطهيره عملا بالاصل من غير معارض، لأن المعتبر في المبيع الطهارة فعلا أو قوة، و الماء باعتبار إمكان تطهيره بالمعتصم طاهر بالقوة، لذا جاز بيع الثياب المتنجسة و الكافر و العصير بعد الغليان، لقبولها التطهير بالغسل بالماء و الاسلام و ذهاب الثلثين، و لو كانت الطهارة الفعلية شرط في صحة البيع لما جاز بيعها الا بعد تطهيرها، و منه بيع الذهب و الفضة الذائبتين إذا تنجّستا لقبول ظاهرهما التطهير بعد الجمود و لا تمس الحاجة الى باطنهما. نعم يمكن عن الشيخ في المبسوط المنع من الاشربةِ المحظورةِ أو شي ءٍ من المحرمات و النجاسات و تبعه على ذلك بعض أساطين المتأخرين استنادا الى بعض الأخبار المانعة من بيع الخمر المعللة ذلك بالنجاسة، و بعض الاخبار المعللة جواز بيع العنب ممن يُعلَم أنه يعمله خمرا بانه باعه حلالا في الآن الذي يحل اكله و شربه، و بعض الاخبار الآمرة بإهراق الماء النجس و المشتبه. و الكل ضعيف، أما الاول: فانما يسري التعليل الى مماثله و هو النجس ذاتا أو الذي لا يقبل التطهير، و أما سريانه الى ما يقبل التطهير فممنوع أشد المنع، و أما الثاني فكونه يحل بيعه في الآن الذي يحل أكله و شربه لا يقتضي عدم جواز البيع في الآن الذي لا يحل اكله و شربه، على أنه في كل آن يحل أكله و شربه لقبوله التطهير، فهو مما يحل أكله و شربه في كل آن و لو بالقوة. و أما الثالث فهو للمبالغة في الكف و عدم المباشرة، و هو لا يقضي بعدم جواز البيع.

المقام الثالث: في المائعات المتنجسة التي لا تقبل التطهير

كالزيت و العسل و السمن و المياه المضافة، و قد اختلف اصحابنا في جواز التكسب بها و عدمه على أقوال.

ص: 61

احدها: القول بعدم جواز التكسب بها مطلقاً سواء فرض لها منفعة محللة أو لا، و سواء كان البيع على المستحل أو لا.

ثانيها: القول بجواز بيعها على المستحل و هو مختارُ جمعٍ من المتأخرين.

ثالثها: القول بجواز بيع ما يقصد مزجه بالماء المطلق الى ان يصير ماء لطهارة المضاف باستهلاكه و هو المنسوب للمحقق الثاني (1).

رابعها: القول بجواز التكسب بها مطلقا الا ما دل الدليل على خلافه، كأن دل الدليل على عدم جواز التكسب به و ان كانت له منفعة محللة، أو دل الدليل على عدم جواز الانتفاع به، و إليه يعود قول العلامة بجواز التكسب بها لقبولها الطهارة و إن خالف في القليل (2)، كما ان اليه يعود قول المحقق الثاني بجواز التكسب لما لا يتوقف الانتفاع به على طهارته كالمائعات المقصود منها الصبغ، و هذا هو الاقوى لما عرفت من اصالة جواز الانتفاع بها الا ما خرج بالدليل. و كل عين مملوكة يجوز الانتفاع بها منفعة مقصودة للعقلاء يجوز التكسب بها، و هذه الكلية المدعاة ثابتة

بقوله (عليه السلام) في خبر تحف العقول: (و كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه و شراؤه و امساكه و استعماله وهبته و عاريته)

(3)، و

قول الصادق (عليه السلام) في خبر دعائم الاسلام: (أن الحلال من البيوع كل ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و يباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرما اصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه)

(4)، و

قول الرضا (عليه السلام) في فقهه: (اعلم- يرحمك الله- ان كل مأمور به على العباد، و قوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون، فهذا كله حلال


1- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 12- 13.
2- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 2/ 6.
3- ابن شعبة، تحف العقول، 247، في التحف (من كل شي ء).
4- النعمان بن محمد المغربي، دعائم الإسلام، 2/ 16، بتغيير قليل في الألفاظ، و ما بين المعقوفتين إضافة يقتضيها السياق.

ص: 62

بيعه و شراؤه و هبته و عاريته)

(1)، و يؤيده أن جمعا من أصحابنا جعلوا جواز بيع النجس و المتنجس دائرا مدار جواز الانتفاع به و عدمه، كما لا يخفى على من تتبع كلامهم في المباحث المتفرقة.

استدلّ المانع مطلقاً بعموم ما دل على المنع من التكسب بالنجس و الحرام، و ليس هو الا ما في خبر تحف العقول من قوله (عليه السلام): (أو شي ء من وجوه النجس فهذا كله حرام محرم، لان ذلك كله منهي عن اكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام) (2)، و النبوي المشهور و هو (أن الله اذا حرم الله شيئا حرم ثمنه) (3)، و قد عرفت مراراً أن المراد من وجوه النجس خصوص الاعيان النجسة دون المتنجس بالعارض، لان المتنجس بالعارض ليس وجها من وجوه النجس، و ان المراد من قوله (عليه السلام) في النبوي: (إذا حرم الله شيئاً) يعني يقال:

هو حرام، و التحريم المطلق ينصرف الى تحريم جميع المنافع أو المنفعة الظاهرة المقصودة، و ما حرمت جميع منافعه أو منفعته المقصودة لا يجوز التكسب به، و ليس المتنجس بالعارض كذلك. و لم نعثر على ما يدل على المنع من التكسب بالحرام و النجس على سبيل العموم سوى ما ذكرنا و آية الخمر (4) الآمرة باجتناب الرجس التي عرفت ما فيها مرارا، و استدل أيضا بالاجماع المحكي عن الغنية (5) و المنتهى (6)، و ظاهر لك و لا يخفى ما فيه. أما اجماع الغنية فقال ابن زهرة بعد ان أشترط في المبيع ان يكون مما ينتفع به منفعة محللة، قال: (و شرطنا في المنفعة أن تكون مباحة تحفظا من المنافع المحرمة، و يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره عدا ما استثني من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت


1- علي بن بابويه، فقه الرضا، 250.
2- المصدر نفسه، 247، بتغيير في الألفاظ.
3- البيهقي، السنن الكبرى، 6/ 13، بتغيير في الألفاظ.
4- المائدة 90.
5- ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع، 213.
6- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1009.

ص: 63

النجس للاستصباح تحت السماء، و هو إجماع الطائفة) (1) و ظاهر العبارة المذكورة ان الاجماع منقول على اشتراط ان يكون المبيع مما ينتفع به منفعة محللة، و ليس دخول كل نجس لا يقبل التطهير من معقد الاجماع بل هو فتوى منه (قُدّسَ سرُّه)، و اين الفتوى من معقد الاجماع.

و أما نقل الاجماع عن ظاهر المسالك فقال في المسالك في شرح قوله (و كل مائع نجس)، لا فرق في عدم جواز بيعها عن القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الاعلام بحالها و عدمه على ما نص عليه الاصحاب (2) لأن قضية تتبع كلام الاصحاب يقضي بخلافه، لان جمعا منهم جعلوا جواز البيع و عدمه دائرا مدار جواز الانتفاع و عدمه، كما يظهر منه حكاية الاجماع. و أما إجماع المنتهى الذي حكاه فلم أقف عليه. و استدل أيضا ببعض النصوص الناهية عن بيع جملة من هذه المائعات، كالمرق و العجين النجس و السمن و الزيت مع عدم القول بالفصل.

و فيه أن تلك النصوص لا يمكن العمل بها لمعارضتها بمثلها مما دل على جواز بيعها على المستحل كما ستسمع. و الحاصل أن القول بالمنع مطلقا ضعيف. و أما القول بجواز البيع على المستحل دون غيره (3)، أما عدم الجواز على غير المستحل فمستنده ما سمعت من أدلة المانع مطلقا، و قد عرفت ما فيها، و أما الجواز على المستحل فمستنده الأذن بذلك في بعض الاخبار، كخبر زكريا بن آدم الوارد في المرق و في العجين إذا قطر فيه خمر أو نبيذ أو دم (ففيه، قلت: أبيعه من اليهود و النصارى فأنهم يستحلون شربه، قال: نعم) (4) و صحيح حفص في عجين يعجن من الماء النجس، كيف يصنع به؟ قال:

يباع ممن يستحل الميتة (5) و لا يخفى عليك أنه بعد العمل بأدلة المانع مطلقا لا يمكن


1- ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع، 213.
2- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 4/ 7.
3- توجد هنا عبارة ساقطة.
4- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 1/ 279.
5- الشيخ الطوسي، الاستبصار، 1/ 29.

ص: 64

تخصيصها بالخبرين المذكورين لقصورهما عن مقاومة تلك الادلة، خصوصا بعد معارضتهما بمرسل ابن أبي عمير الآمر بدفن العجين النجس الناهي عن بيعه (1) مضافاً الى كون الكفار مكلفين بالفروع، فيكون حالهم كحال المسلمين، فالبيع عليهم يكون من باب الاعانة على الاثم، مضافا الى لزوم استحلال الثمن المقبوض بالبيع الفاسد، فلا بد من حمل الخبرين المذكورين على تقدير العمل بأدلة المانع أو مطلقا على التقية او على البيع من الحربي فيكون من باب الاستنقاذ لا من باب البيع.

و أما القول بالجواز في ما يقصد مزجه بالماء المطلق فإن لم نقل بجواز الانتفاع به على حاله أو لم نقل بجواز بيعه لذلك الانتفاع فلا وجه للقول بجواز بيعه لذلك، لان هذه المنفعة من المنافع النادرة التي لا يجوز البيع لأجلها كما لا يخفى. و أما تعليل الشرائع الجواز بقبولها التطهير فمما لا وجه له لتعذر تطهيرها بدون استهلاكها في الماء المطلق، و ذلك لا يعد تطهيراً، بل من الاتلاف و الاضمحلال. فاذا امتنع الانتفاع بها باقية على حالها لم يجز بيعها، و دعوى ان استهلاكها و صيرورتها ماء مطلقا من جملة المنافع التي يجوز البيع لاجلها مما لا وجه له، لأنها من المنافع النادرة التي لا يجوز البيع لها، فالحقُّ جواز بيع المائعات المتنجسة و إن لم نقل بقبولها التطهير.

و من هنا يعلم أنه يجوز التكسب بالدهن المتنجس بالعارض، و على القول بعدم جواز التكسب بالمائع المتنجس بالعارض الذي لا يقبل التطهير يجوز التكسب بالدهن المتنجس بالعارض حيوانياً كان أو غيره بإجماع أصحابنا محصلًا و منقولًا نقلًا مستفيضاً خلافا للشيخ (رحمه الله) حيث خصص ذلك بالزيت (2) و هو محجوج بالاجماع و بالاخبار المستفيضة التي منها خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه، فقال: (إن كان جامداً فتطرحها و ما حولها و تأكل ما بقي، و إن كان ذائبا فأسرج به، و اعلمهم إذا بعته) (3). و منها خبر معاوية بن وهب


1- الحر العاملي، الوسائل، 1/ 242.
2- الشيخ الطوسي، الخلاف، 3/ 187.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 66.

ص: 65

و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في جرذ مات في زيت، ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: بِعْهُ و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به) (1). و منها خبر اسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله سعيد الأعرج السّمان و أنا حاضر عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت، كيف يصنع به؟ فقال: أما الزيت فلا تبعه الإجابة لمن تبينُ له فيباع للسراج، و أما الأكل فلا، و أما السمن، فإن كان ذائباً فهو كذلك، و إن كان جامداً و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها، ثمّ لا بأس به، و العسل كذلك، إن كان جامداً) (2).

و يعضد هذه الأخبار الدالة على جواز الاستصباح به، كخبر معاوية بن وهب الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: أما السمن و الزيت، فيؤخذ الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به) (3).

و لعل التفرقة بين الزيت و السمن و العسل لجمود السمن و العسل غالبا و ذوبان الزيت.

و خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فان كان جامدا فألقها و ما يليها، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك) (4).

هذا إذا قلنا بعدم جواز الانتفاع بالمائع النجس الذي لا يقبل التطهير، و إن قلنا بجواز الانتفاع به مطلقا كما هو الاصل و المختار، كان التكسب بذلك مما لا كلام فيه لأنه على وفق القانون الذي حررناه و هو أن كل ما يجوز الانتفاع به من الاعيان نفعا يعتد به يجوز التكسب به، فعلى القول بالمنع من الانتفاع بالمائع المتنجس الذي لا يقبل التطهير يكون الدهن مستثنى لجواز الانتفاع به بالاستصباح كما هو مدلول النصوص معقد الاجماع، و على القول بالمنع من التكسب بالمائعات المتنجسة التي لا تقبل التطهير للدليل و إن جاز الانتفاع بها، يكون الدهن مستثنى لجواز التكسب به كما هو معقد


1- المصدر نفسه 12/ 66.
2- المصدر نفسه، 12/ 66- 76.
3- المصدر نفسه 12/ 66.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 66.

ص: 66

الاجماع و مدلول الاخبار أيضا، و على القول بجواز الانتفاع بالاعيان المائعة المتنجسة التي لا تقبل التطهير يكون الدهن مستثنى لعدم جواز الاستصباح به تحت الظلال لمرسل المبسوط (1) و نفي الخلاف في السرائر (2)، و كيف كان فتنقيح المقام يتم برسم مباحث:

أحدها: ظاهر النصوص المتقدمة وجوب الاعلام بالنجاسة، قال بعض أساطين المتأخرين: (إن قلنا باعتبار اشتراط الاستصباح أو تواطئهما عليه في صحة العقد فلا أشكال في وجوب الاعلام لتوقف العقد على العلم بالنجاسة) (3)، و ظاهره أن يكون حينئذ وجوب الاعلام شرطياً أي شرط في صحة العقد، و هو كما ترى لأنه لا يتوقف اشتراط الاستصباح و تواطؤهما عليه على الاعلام بالنجاسة، و الظاهر من النصوص المتقدمة أن وجوب الاعلام شرعيا لا شرطيا، فلا فرق حينئذ بين الاعلام قبل العقد أو بعده. نعم هو شرط في لزوم العقد لا في صحته، فلو اعلمه بعد العقد لم يسقط خياره.

و هنا مباحث:

احدها: في باب المعاوضات، لو كان أحد العوضين متنجساً ثمنا كان أو مثمنا جامدا كان أو مائعا يقبل التطهير أولا، فهل يجب على صاحبه الاخبار بنجاسته أولا؟

و هل يثبت الخيار مع عدم الإخبار أولا؟ ظاهر الاصحاب وجوب الاعلام و ثبوت الخيار مع عدمه، و علّل ذلك بعض اصحابنا (بان النجاسة عيب خفي، فيجب إظهارها) (4) و فيه انهم صرحوا أن العيب ما زاد أو نقص عن الخلقة الاصلية، و النجاسة ليست كذلك فتأمل. و يمكن ان يكون المنشأ في ذلك قاعدة حرمة الغش و التدليس لأن عدم الاعلام بالنجاسة- مع أن المشتري أقدم على البيع طاهرا للأصل- تدليس و لا يفسد العقد لخروج متعلق النهي عن المعاملة. نعم لازم ذلك ثبوت الخيار، و لذا إن الاصحاب حكموا بثبوت الخيار هنا، و المدار في الخيار إن جعلناه من


1- الشيخ الطوسي، المبسوط، 6/ 283.
2- ابن ادريس الحلي، السرائر 3/ 121.
3- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 73.
4- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 77.

ص: 67

العيب واضح، و إن جعلناه من التدليس فمدرك الخيار مشكل، لأن التدليس لا يثبت خيارا مستقلًا، بل هو إما يرجع الى خيار العيب أو الوصف أو الغبن أو غير ذلك من الخيارات.

و حينئذ نقول: إن كان تطهيره أو عدم قبوله التطهير يوجب نقصا في القيمة و ضررا على المشتري فالقول بالخيار للضرر و الضرار لدخول الغبن لا بأس به، و إن كان تطهيره لا يوجب نقصا في شي ء من الاشياء و لا يحتاج الى مئونة، كبعض الجوامد المتنجسة من قبيل الاحجار فثبوت الخيار مشكل، و لكن ظاهر كلام اصحابنا ثبوته مطلقا، فعلى هذا يكون وجوب الاعلام على القاعدة من غير فرق بين المائع و الجامد و لا بين الدهن و غيره، و إن قلنا إن وجوب الاعلام جاء به الدليل في خصوص المقام فلا ينبغي التعدي عنه، و دعوى تنقيح المناط بين المقام و غيره غير منقحة لأن المناط بينه و بين الاعيان القابلة للتطهير غير منقح، و بينه و بين الاعيان غير القابلة للتطهير و إن كان منقحا، لكن لا يجوز التكسب بها على المشهور، و أما على ما ذهبنا اليه من جواز التكسب بها فالأمر واضح، و لا فرق في وجوب الاعلام بين بيعه من الكافر و غيره و بين من لا يبالي بالنجاسة و غيره، و بين كون المشتري قائلا بنجاسته أو بعدم نجاسته، و الوجه في الكل كونه نجسا عند البائع فيحصل الغش بعدم الاعلام و هو محرم و إن كان لا فائدة في الاعلام في بعض الفروض.

نعم لو كان مذهب البائع الطهارة و مذهب المشتري النجاسة لم يجب الاعلام لعدم التدليس بالنظر الى البائع. و فيه اشكال، بل هذا أولى بوجوب الاعلام من عكسه و ان كان العكس أوفق بالقاعدة فتأمل.

و لا فرق في باب المعاوضات بين مناولة البائع للمشتري و عدمه لما ذكرناه من الغش و التدليس، و المنقول عن جدي المرحوم التفرقة جمعا بين الاخبار المتقدمة فحَملَها على المناولة، و بين خبر عبد الله بن بكير، قال: (سألت الصادق (عليه السلام) عن الرجل أعار الرجل ثوبا فصلى فيه و هو لا يصلي فيه، قال: لا يعلمه، قلت:

فإن أعلمه، قال:

ص: 68

يعيد) (1)، و خبر محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال:

(سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما و هو يصلي، قال: لا يعلمه حتى ينصرف من صلاته) (2) فحملها على عدم المناولة، و انت خبير بأن الخبرين المذكورين ليسا في المعاوضات و أخذ صاحب الحدائق بالاخبار المانعة من الاعلام نظرا الى أن الطهارة و النجاسة و الحل و الحرمة من الاحكام العلمية و ليست من الأحكام الواقعية النفس الأمرية، و استشكل في التوفيق بين الاخبار و لم يتخلص (3)، و هو مناف لإجماع الأصحاب و روايات الباب فلا ينبغي الالتفات اليه.

ثانيها: إذا فعل أحد فعلا غير جائز باعتقاد الجواز خطأً او سهواً أو جهلًا، هل يجب أعلامه أم لا؟ فيه أشكال و ربما قيل: انه إن كان متعلقا بالنفس أو العرض، كما لو اراد قتل احد باعتقاد انه قاتل أبيه، و ليس كذلك، و نظائره نفساً و طرفاً، أو يريد الجماع مع زوجة الغير باعتقاد انها زوجته يجب الاعلام حفظا للنفس و العرض عن التلف، و لان المفهوم من الآثار المعهودة من الشريعة الاهتمام بهما، و تعلق غرض الشارع بعدم اختلالهما و ان كان مالا كما لو أراد احد أن يأكل مال أحد باعتقاد انه ماله، ففي وجوب الاعلام أشكال، و حكي عن البعض الوجوب ايضا، نظر الى حق المسلم على المسلم لكنه لم يثبت و الأصل البراءة، نعم ليس له ان يكون سببا له كأن يعطيه مال الغير فيصرفه باعتقاد أنه ماله.

و أن كان غير الثلاثة المذكورة بل كان حكما كما لو رأيته يتوضأ أو يصلي بالنجس باعتقاد الطهارة، فعن البعض أنه ان كان هذا الحكم علميا كالصلاة مع النجاسة لم يجب الاعلام، و ان كان وجوديا كالوضوء بالنجس وجب الاعلام، و يحتمل التفصيل في تلك الصورة بين المناولة و غيرها فيحرم في الاول دون الثاني، فلو أعطاه ماء نجسا ليتوضأ به وجب الاعلام، و كذلك لو اعطاه ثوبا نجسا ليصلي فيه، و أما اذا لم يناوله فلا يجب الاعلام سواء كان وجودياً أو علمياً، و يحتمل القول بعدم الوجوب مطلقا في


1- عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الاسناد، 103. بتغيير قليل في الألفاظ.
2- الحر العاملي، الوسائل، 2/ 1069.
3- المحقق البحراني، الحدائق الناضرة، 1/ 135- 137.

ص: 69

الوجودي و العلمي و المناولة و غيرها، للأصل و لما يظهر من إطلاق بعض الاخبار بجواز إعادة الثوب الذي لا يصلي فيه، فإنه مطلق بالنسبة الى إرادة المستعير الصلاة و غيرها.

هذا كله في غير باب المعاوضات، و أما فيها كما لو باعه نجسا فاللازم الاعلام مطلقاً سواء ناوله أولا، حذراً من التدليس و هذا ليس كمناولة الماء النجس للوضوء أو الشرب لأن هذا معاوضة مقابلة بالمال. بخلاف ذلك فلا تفعل.

ثالثها: قد عرفت أنه يجب الاعلام بالنجاسة بالدهن المتنجس و كذلك أيضا يجب الاعلام بجلود الميتة إذا قلنا بجواز التكسب بها لبعض الانتفاعات، كاستقاء الماء بها للمزارع و البساتين و غير ذلك. و متى وجب الاعلام وجب القبول و التصديق، لان صاحب اليد مصدّق من غير فرق بين أن يكون خبره على وفق الاصل أو على خلافه و و يدل- على وجوب تصديقه سواء كان عدلا او فاسقا- الاخبارُ المتقدمة الآمرة بالأعلام بنجاسة الدهن المستصبح به، لأنه لو لا وجوب التصديق و القبول لما وجب الاعلام، لان فائدته منحصرة في ذلك.

و دعوى أن الفائدة لا تنحصر في ذلك بل لعلها التنبيه للاستفسار و السؤال و التبيين في ذلك الخبر الى ان يحصل القطع- بعيدة عن ظاهر الاخبار الآمرة بالاعلام، على انه مضافا لما ذكرنا يظهر من صاحب الحدائق في بعض عبائره دعوى ظهور الاتفاق على تصديق صاحب اليد في النجاسة و الطهارة (1)، على أن جملة من الاخبار تدل على ذلك كخبر قرب الاسناد عن ابن بكير (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلًا ثوباً يصلي فيه و هو لا يصلي فيه قال: لا يُعلِمهُ، قلت: فان أعلمه؟ قال: يعيد) (2)، فانه حكم باعادة الصلاة على المستعير بعد الاعلام و خبر البزنطي (سألته عن رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أ ذكيّة أم غير ذكية أ يصلي فيها؟ فقال:

نعم ليس عليكم المسألة، ان أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: أن الخوارج ضيقوا على


1- المحقق البحراني، الحدائق الناضرة، 1/ 135- 137.
2- الحميري القمي، قرب الأسناد 169.

ص: 70

أنفسهم بجهالتهم. و ان الدين أوسع من ذلك) (1) فإن ظاهر الخبر حيث جعل الاشياء على الطهارة و الحل، و نفي وجوب السؤال عن كل فرد و التضييق أنه مع السؤال يقبل قول المسئول و ألا لما كان بالسؤال تضييق.

و خبر إسماعيل بن عيسى قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجلود و الفراء (2) يشتريها الرجل من أسواق الجبل، أ يسألُ عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ فقال عليكم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك فإذا رايتموهم يصلون فيه فلا تسألوهم) (3)، فإن الاظهر من معنى الخبر انكم اذ رأيتم المشركين يبيعون تلك فاسألوا لانه لعل المسلم أخذها من مشرك، و ان رأيتم المسلمين يصلون فيها فلا تسألوهم، لان صلاتهم فيه دليل على طهارته.

و من الاخبار التي تدل على قبول خبر ذي اليد في الطهارة موثق عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل يأتي بشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، فقال: ان كان مسلماً او عارفاً ورعا بامرنا فلا بأس) (4)، و لا فرق في قبول خبر ذي يد بين خروجه عن ملكه و عدمه بعد ان يكون في يده. نعم لو خرج عن يده و هو في ملكه لم يقبل قوله الا أن يقبل خبر العدل في ذلك مطلقا كما هو الاقوى استناداً إلى مفهوم آية النبأ (5)، و خصوص صحيح محمد بن مسلم (في رجل يرى في ثوب أخيه دما، و هو يصلي فيه، قال: لا يؤذيه حتى ينصرف) (6).

رابعها: هل يشترط في بيع الدهن المتنجس اشتراط الاستصباح به تحت السماء صريحا في ضمن العقد أو يكفي في صحة البيع قصد ذلك من المتعاقدين.

أولا يشترط شي ء منهما؟ وجوه بل أقوال، يظهر من الحلي في محكي السرائر الأول، حيث قال فيه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة أجمع (و يجوز بيعه


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3/ 332.
2- في المخطوطة (الجلود و الفرائية) و (ذاته) و ما أثبتناه من (مَن لا يحضره الفقيه).
3- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 1/ 258.
4- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 9/ 116، باختلاف قليل في الألفاظ.
5- حجرات، 6.
6- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 2/ 361.

ص: 71

بهذا الشرط عندنا) (1)، و يظهر من محكي الخلاف الثاني حيث قال فيه: جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و قال أبو حنيفة: يجوز مطلقاً (2)، و هو ظاهر في كفاية القصد كما يظهر من عبارة المبسوط، بل هو ظاهر كل من عبر بقبوله يجوز بيعه للاستصباح، و الاقوى الثاني وفاقا لجماعة من أعيان الاصحاب نظرا الى أن جواز الاستصباح به تحت السماء مثبت لماليته، و متى ما كان مالا جاز بيعه، و لا دخل لقصد ذلك في تحقق المالية. أ لا ترى ان ما تتحقق به المالية من المنافع في غير الدهن المتنجس لا يعتبر في صحة بيعه قصدها. نعم وجود المنفعة التي تتحقق بها المالية كاف في صحة البيع سواء قصدت أو لا. فالقصد لا مدار عليه في صحة البيع. نعم قصد المنفعة المحرمة مبطل للبيع كما ستعرف ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى.

خامسها: المشهور بين الاصحاب وجوب الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السماء، بل عن السرائر نفي الخلاف في حرمة الاستصباح به تحت الظلال (3)، و لعله المستند في الحكم، مضافا الى ما أرسله الشيخ في المبسوط، قال: (روى اصحابنا انه يستصبح به تحت السماء دون السقف)، و الحكم في غاية الاشكال لخلو الاخبار الكثيرة الواردة في مقام البيان عن هذا القيد و انحصار المستند في المرسل المجبور بما سمعت من الشهرة و نفي الخلاف، و لعل الجملة الخبرية في المرسل محمولة على الاستحباب أو على الارشاد لئلا يتأثر السقف بالدخان من النجس، و فصّل العلامة في المختلف بين ما إذا علم بتصاعد شي ء من أجزاء الدهن و ما إذا لم يعلم، فوافق المشهور في الأول و خالفهم في الثاني (4). و هو كما ترى لابتنائه على تحريم تنجيس


1- ابن ادريس، السرائر، 3/ 127.
2- الشيخ الطوسي، الخلاف في الفقه، 1/ 588.
3- الشيخ الطوسي، المبسوط، 6/ 283.
4- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 18/ 331.

ص: 72

السقف و لا دليل عليه. و من هنا قال بعض اصحابنا (رحمهم الله) إن ظاهر كل من حكم يكون الاستصباح تعبّدا لا لنجاسة الدخان (1).

و كيف كان فعلى القول بوجوب الاستصباح به تحت السماء لا بد من مراعاة كون الاستصباح به تحتها، فلا بد من كونه مكشوفا لها غير محجوب عنها بحاجز مشبكا أو لا، مرتفعا أو لا، كثيفا أولا. هذا و على القول بعدم جواز التكسب بالمائع الذي لا يقبل التطهير لا فرق بين تعقّب الجمود له و عدمه بعد الاشتراك في عدم قبول التطهير الذي هو مناط الحكم. نعم قد يخرج عن ذلك ما يقبل ظاهره التطهير بعد الجمود كالفضة و الذهب و القير و نحوهما إذا تنجست مائعة ثمّ جمدتْ، فلا بأس بالتكسب بها مائعة، لأن لها حالة يقبل ظاهرها التطهير فيها، و به يحصل النفع المقصود منها لعدم توقف الانتفاع بها على طهارة باطنها غالبا، و من ذلك يعلم خروج العجين النجس و نحوه بناء على أن له حالة تجفيف يقبل فيها التطهير أيضا، و ربما ألحق بعض اصحابنا الصابون مدّعيا أنه كالصبغ، قال: فلا أشكال حينئذ بالغسل بما يبقى من رغوته المتنجسة، لكنه كما ترى، و الاولى الاستناد في ذلك الى السيرة إن كانت (2).

و كيف كان فقد أطبق أصحابنا على أن حرمة البيع في المقام تقضي بفساده و عدم ترتب الآثار عليه حتى من القائلين بعدم اقتضاء النهي في المعاملة الفساد، و ذلك إما لانعقاد الاجماع عندهم على ذلك و إن منعوه في غير هذا المقام، و أما لدلالة حرمة الثمن على ذلك، فان معنى حرمته حرمة أخذه و امساكه و التصرف فيه، و ليس ذلك الا لعدم انتقاله للبائع و بقائه على ملك المشتري و هو لا يجامع الصحة، و إما للقاعدة الشرعية المستفادة من الادلة الآتية و هي: (ان كل ما تعلق النهي بركنه من المعاملات فاسد) و الظاهر أن هذه من القواعد المحررة و الاصول المعتبرة، و لا ربط لها بالقول بدلالة النهي على الفساد، بل هي ثابتة حتى على القول بعدم دلالة النهي على الفساد، و يدل عليها أمور:


1- الشيخ الأنصاري، الكاسب، 1/ 79، و قوله (رحمه الله) يقتضي كتابة هذا الجزء من الكتاب بعد وفاة الشيخ الأنصاري (قُدّسَ سرُّه) سنة 1281 ه لان المصنف (قُدّسَ سرُّه) توفى سنة 1286 ه.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 13.

ص: 73

احدها: مصير معظم الاصحاب اليها و بناؤهم عليها، فان الفقهاء لم يزالوا كافة يستدلون في ابواب الفقه بالنهي على الفساد، و هو واضح لمن تتبع، و لا نقول بأنه دال على الفساد شرعاً، كما ادّعاه المرتضى (1) (رحمه الله) حتى يستلزم النقل في مدلول النهي، بل الظاهر انه على معناه اللغوي و العرفي، لكن هذا التمسك و الاجماع كاشف إما عن وجود قرينة عندهم أو دليل يدل على ذلك، فيكون النهي أمارة محققة للموضوع و العلم بالفساد للقاعدة المذكورة، و لو كان ذلك لدلالة النهي على الفساد لما استدل به من منع دلالة النهي على الفساد، و حيث كان أصحابنا متسالمون على الفساد فيما لو تعلق النهي باركان المعاملة دون ما لو تعلق بأمر خارج، يكشف ذلك عن ثبوت القاعدة المدلول عليها عندهم في خصوص ما لو تعلق النهي بالاركان، بل بتتبّع كلامهم فيما لو تعلق النهي بامر خارج و حكمهم بعدم الفساد في ذلك يقتضي عثورهم على الدليل أو القرينة في خصوص ما لو تعلق النهي بالأركان فتبصّر.

ثانيها: الاجماع الذي حكاه المرتضى (2) و غيره على ذلك فإنْ أراد به الاجماع على الفساد المنهي عنه فهو مسلّم و لا يستلزم دلالة النهي على الفساد فتتم حجة لنا على المطلوب، و إن أراد به الاجماع على دلالة النهي على الفساد فهو ممنوع لمصير المشهور الى عدم دلالة النهي على الفساد، فحينئذ ناخذ به في فساد المنهي عنه دون دلالة النهي على الفساد فتأمل. و كون مورده أعم من القاعدة المذكورة لحكايته على فساد المنهي عنه مطلقا و إن لم يكن النهي متعلقا بالاركان لا يضر في الاستدلال.

ثالثها: الاستقراء، فانّا وجدنا كثيرا من المعاملات المنهي عنها لركنها فاسدة بحيث لم يبق لنا بحث في فسادها، بل كان فسادها أمرا معلوما، إما من اجماع أو غيره، فاذا كان الغالب في المنهي عنه لذلك ذلك كان المشكوك به ملحقا بالأعم الاغلب و إن لم يدل دليل خاص على فساده، و الظاهر حجية الغلبة في مثل المقام.


1- الشريف المرتضى، الانتصار، 134- 135.
2- الشريف المرتضى، الانتصار، 134- 135.

ص: 74

رابعها: الاخبار الواردة في نكاح العبد بغير اذن سيده، و انه يصح معللا ذلك بأنه (ما عصى الله و انما عصى سيده) (1)، فان الظاهر من التعليل أن كل عقد مشتمل على معصية يكون فاسداً.

فان قلت: إن معصية السيد معصية الله ايضاً، فينبغي أنّ يكون العقد فاسدا، قلت:

الظاهر من التعليل أنّ ما كان معصية الله ابتداءً- كأنْ كان محرما بأصل الشرع- كان فاسداً، بخلاف ما لو كان التحريم لأمر خارج فانه لا يفسد كما يقضي به قوله: (و انما عصى سيده)، و هذا إنما يدل على ما ذكرناه من القاعدة، لأنّا إنما أثبتناها في ما لو كان التحريم ناشئاً من احد أركان المعاملة، و حيث كان نكاح العبد ليس فيه تحريم من أصل العقد و لا من أحد أركانه، و انما هو من أمر خارج و هو عدم إذن المولى لم يكن فاسدا.

و هذا لا ربط له بدلالة النهي على الفساد، بل يكون النهي دالا على تحريم المعاملة، و الاخبار المذكورة دالة على فساد كل معاملة محرمة باصل الشرع، فالاخبار الواردة منشأ القاعدة المزبورة.

فان قلت: إن الاخبار المذكورة تدل على أن العقد المنذور تركُه باطل، كما لو حلف على أن لا يبيع أو نذر كذلك، لاشتمال العقد المذكور على معصية الله بمخالفة النذر أو اليمين.

قلت: ليس الامر كذلك، لأن الظاهر من الخبر أن كل عقد يكون معصية لله، لو خُلّي و نفسه من دون أمر خارج يكون باطلا، و العقد المنذورُ تركُه إنما كان معصية بتوسط النذر و اليمين، و ليس النذر و اليمين إلا كإذن المولى في عقد عبده، فمنْعُ الله عن العقد المنذورُ تركُه بواسطة الزام العبد نفسه بتركه العقد باليمين، كما أن منع الله من عقد العبد بواسطة منع سيده عنه و كيف كان فالظاهر من الخبر أن كل عقد يكون معصية لله بنفسه من دون توسط أمر آخر يكون فاسدا، و العقد المنذور و المحلوف على تركه ليس كذلك.

فإن قلت: إنما نمنع حجبه الخبر للمناقشة في سنده و في حجيته في مثل المقام، قلت: أما سنده فمعتبر و تلقي الاصحاب له بالقبول و تكرر نقله في كتبهم كافٍ في ذلك، و أما


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 7/ 351.

ص: 75

حجيته في مثل المقام فلا كلام فيها، لأن الغرض إثبات قاعدة فقهية به و هي (فساد ما تعلق النهي بركنه من المعاملات) لا إثبات مسألة أصولية و هي دلالة النهي على الفساد. و بين المقامين بون بعيد. نعم نحن نجعل النهي المذكور أمارة كاشفة عن فساد المنهي عنه.

فان قلت: إنه معارض بعدم ظهور النواهي في فساد المنهي عنه، قلت: لا تعارض بين الخبر و بين عدم ظهور النواهي في ذلك، لأنا ندّعي دلالة الخبر على فساد المنهي عنه لا دلالة الخبر على دلالة النواهي على فساد المنهي عنه. نعم لو ادّعينا دلالة الخبر على دلالة النواهي على الفساد أمكن ذلك. و أقول تنزّلا: لو ظهر من النواهي عدم فساد المنهي عنه و كانت معارضة للخبر المذكور كان مقدما عليها أيضا لأنه من قبيل القرينة على صرف ظاهر النواهي، لأنه يكون نظير ما لو قال القائل: كلما نهيتك عن شي ء فهو فاسد، فهذا صارف لظواهر النواهي و الخبر المذكور فتبصر.

خامسها: النبوي المشهور و هو قوله (عليه السلام): (إذا حرّم الله شيئاً حرم ثمنه) (1)، فانه دال على فساد المعاملة المنهي عن أحد أركانها و هو المبيع، و بضميمة عدم القول بالفصل بالاركان يتم المطلوب، و بيان دلالته على الفساد أن معنى حرمة الثمن هو حرمة أخذه و إمساكه و التصرف فيه، و ليس ذلك الا لعدم تملكه، و عدمُ تمليكهِ لا يجامع صحة المعاملة، لأن صحتها عبارة عن ترتب الاثر عليها الذي هو الملك و التمليك.

فان قلت: ان تلك ليست من لوازم الملك الذي يقتضي انتفاؤها بانتفائه، أ لا ترى أن الذمي لا يجوز له التصرف بالخمر و الخنزير و لا إمساكهما و لا أخذهما، لأنه مكلف بالفروع كالمسلمين مع أنه يملكهما. قلت: ذلك ليس ملكا واقعيا، لكن الشريعة أقرتهم على ما يرونه من صحة تملكها فجرى عليها حكم الملك من عدم جواز الاتلاف و وجوب الرد و الضمان و نحو ذلك فكان حكما ثانويا، و إلا فليس ذلك من الأملاك الواقعية لهم.


1- البيهقي، السنن الكبرى، 6/ 13، بتغيير في الألفاظ.

ص: 76

فان قلت: كما ان حرمة نفس المعاملة لا تستلزم عدم الملك، كذلك حرمة الثمن و التصرف فيه لا تستلزم عدم تملكه. أ لا ترى انه كم من مالك لا يجوز له التصرف في ملكه، و لا يجوز له المطالبة به، كمن اشترى شيئاً مغصوباً و دفع ثمنه فانه لا تجوز له المطالبة بالثمن و إن كانت عينه باقية كما هو المشهور، بل حكى على ذلك الاجماع جماعةٌ. نعم لو ردّه له البائع جاز له التصرف فيه، و مثله المدّعي لا تجوز له المطالبة بالمال الذي حلف عليه المنكر، و لا يجوز له التصرف فيه و إن كان ماله و ملكه. قلت: نحن لا نقول إن حرمة الثمن تدل على الفساد لغة أو عقلا بل نظراً (1) الى قواعد الشرع لأن المعلوم من قواعده ان الملك له لوازم شرعية تثبت بثبوته و ينتفي بانتفائها الا ما خارج بدليل، و خروج الموارد المذكورة ببعض الادلة الخاصة لا ينافي ما ذكرناه من قواعد الشريعة.

سادسها: أصالة الفساد في كل ما لم تُعلم صحته أو فساده من المعاملات، و تقرير ذلك بأنْ يقال: إنّ ما علمنا صحته من المعاملات حكمنا بها، و ما علمنا فساده حكمنا به، و ما لم نعلم صحته أو فساده سواء ظننا أحدهما ظنا غير معتبر شرعا أولا، فالاصل الفقاهتي التعليقي فيه الفساد و نعني بالاصل الفقاهتي ما كان حجيته تعبدية لا من حيث الوصف، أي حصول الظن كأصالة الحاق الولد بالفراش، و أصالة الملكية في يد المسلم و أصالة الطهارة في الاشياء، و يقابله الاصل الاجتهادي، و هو ما كانت حجيته من حيث إفادته الظن كأصالة البراءة و الاستصحاب، و بالتعليقي هو ما توقف العمل به على الفحص عن المعارض كالاصول المذكورة، و يقابله التنجيزي و هو ما لا يتوقف العمل به على الفحص عن المعارض كقاعدة عدم التكليف بما لا يطاق، و قاعدة وجوب مقدمة الواجب، و قاعدة اقتضاء الامر بالشي ء، النهي عن الضد، و قاعدة عدم اجتماع الامر و النهي، و معنى كون الاصل الفساد في المشكوك به أن الفقيه إذا شك في صحة بيع المعاطاة و الفضولي و تفحص الأدلة الظنية المعتبرة على المقدار المعتبر في الفحص على رأيه فيه و لم يجد شيئا يدل على الصحة أو الفساد يبني على الفساد بمقتضى القاعدة الفقهية التعبدية، لأن الصحة مفهومها وجودي و هو


1- في الأصل (نظرٌ الى).

ص: 77

الاتيان بالشي ء على وجهه، و لا فرق في ذلك بين العبادات و المعاملات، فالصحة في العبادات عبارة عن كون العبادة تامة الاجزاء و الشرائط و مرفوعة الموانع مع كونها مأمورا بها، فلو شك في الجزء أو الشرط أو المانع لم يتحقق مفهوم الصحة و مقوماتها، و كذا لو علم بتماميتها و شك في تعلق الامر بها كصلاة الضحى لم تتحقق الصحة ايضاً، و في المعاملات عبارة عن سببيتها للأثر المطلوب و ترتب ذلك الأثر عليها كتمليك العين و المنفعة في البيع و الصلح، و المنفعة فقط في الاجارة و العارية، و البضع في النكاح، فمتى ما شك في سببيتها و لم يعثر بعد الفحص على دليل يدل على ذلك يبني على فسادها و عدم السببية للأصل الفقاهتي التعبدي، فكما ان يد المسلم قاضية بالملكية و الفراش قاضٍ بكون الولد له الشك (1) مع عدم العثور على دليل الصحة قاضٍ بإفساد العقد من غير فرق بين الشك أو الظن غير المعتبر بأحدهما.

و الظاهر ان مدرك هذا الاصل الاجماع محصلًا و منقولًا عن جملة من اساطين اصحابنا، و له مدارك أُخر ليس هذا محل بيانها. و يمكن اثبات الفساد بطريق آخر، و هو ان نقول: إن الاصل عدم الصحة في المشكوك به، لأن احكام الشارع كلها توقيفية، و منها الصحة، و الاصل عدمها، فيكون الاصل من الاصول العقلية الاجتهادية و هو استصحاب العدم الّا انه يحتاج في اثبات الفساد الى دليل، و هو اما قاعدة عدم الدليل دليل العدم، و انتفاء الواسطة بين الصحيح و الفاسد، فانتفاء الصحة يستلزم ثبوت الفساد، او دعوى ان الفساد امر عدمي و هو عبارة عن عدم الصحة فتأمل.

فإذا ثبتت اصالة الفساد في ما لم يدل دليل على صحته من المعاملات، فنقول ان المنهي عنه لركنه فاسد، لأن النهي دل على التحريم، فيخصص به ما دلَّ على حلية البيع و جوار الصلح و وجوب الوفاء بالعقود، لأن التعارض بينهما بالعموم او الخصوص المطلقين فيخرج المنهي عن عموم ادلة الاباحة و الجوار، و الصحة و ان كانت من الاحكام الوضعية لكنها تابعة في هذه الادلة للحكم التكليفي، بمعنى انَّ الصحة قد استفيدت من ادلة الإباحة و لزوم الوفاء، فمتى زال الحل بالنهي فلا وجه لبقاء الصحة، و الغرض ان المنهي عنه لركنه بخروجه عن ادلة الصحة يبقى بلا دليل فيرجع


1- توجد عبارة ساقطة بين (الولد له) و (الشك).

ص: 78

الى اصالة الفساد الاولية، و هو معنى قولنا: ان المنهي عنه لركنه فاسد الّا ان النهي يدل على الفساد، فإن قلت: ان هذا الكلام يتجه فيما لو كان دليل الصحة منحصر في العمومات التكليفية، و ليس كذلك لأن عندنا عمومات وضعية كقوله: (البيعان بالخيار) (1) و نحوه لا تنافي بينها و بين التحريم فلا تخصص به و هي كافية في اثبات الصحة.

قلت: الادلة الوضعية مع عدم وجودها في كثير من الابواب و اخصيتها من المدعي لبيان حكم آخر و لا دلالة فيها على اثبات الصحة حتى يتمسك بها، و بالجملة المعاملة المنهي عنها لركنها فاسدة فتبصّر.

[النوع الثاني مما يحرم التكسب به ما كان محرما لتحريم الغاية التي وضع لها ذلك الشي ء]
التكسب بآلات اللهو
اشارة

النوع الثاني مما يحرم التكسب به ما كان محرما لتحريم الغاية التي وضع لها ذلك الشي ء كآلات اللهو، مثل العود و المزامير و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج.

(العُود بالضم الذي يضرب به و هو عود اللهو) (2). كذا في المجمع. و المزمار (بالكسر قصبة يزمر بها، و تسمى الشبابة و الجمع مزامير) (3)، (و صليب النصارى هيكل مربع يدّعي (4) النصارى أن عيسى (عليه السلام) صلب على خشبته على تلك الصورة، و عن مغرب اللغة انه شي ءٌ مثلث كالتماثيل تعبده النصارى) (5)، و الصنم هو ما كان مصورا من حجر أو صفر و نحو ذلك، و الوثن ما كان من غير صورة، و قيل: هما شي ء واحد (6)، و النرد هو النرد شير الذي هو من موضوعات سابور بن اردشير بن بابك، و اردشير بن بابك أول ملوك الساسانية، شبّه رقعتَه بوجهِ الأرض، و التقسيمَ الرباعيّ بالكعاب الاربعة، و الرقومَ المجعولةَ ثلاثين بثلاثين يوما، و السوادَ و البياض بالليل و النهار، و البيوتَ الاثني عشرية بالشهور، و الكعاب بالاقضية السماوية للّعب بها و الكسب (7). هكذا في مجمع البحرين. و الشطرنج لعبة معروفة اخذا من الشطارة او التشطّر (8). البرابط، قال في المجمع، (البَربَط كجعفر شي ء من ملاهي العجم يشبه صدر


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 345.
2- فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 111.
3- المصدر نفسه، 3/ 318.
4- في المخطوطة و المجمع (يدعون) و الأفصح ما أثبتناه.
5- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 2/ 101.
6- المصدر نفسه، 6/ 103، بتغيير قليل في الألفاظ.
7- فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 150.
8- المصدر نفسه، 3/ 346.

ص: 79

البط، معرَّب بربت أي صدر البط، لأن الصدر يقال له بالفارسية بر و الضارب به يضعه على صدره) (1)، و كيف كان فالكلام في هذا القسم مما يحرم التكسب به في مقامات.

[المقام الأول] عمل آلات اللهو

المقام الاول: في انه هل يجوز عمل آلات اللهو و هياكل العبادة المبتدعة و آلات القمار أو لا يجوز؟، و تخصيص الامور المذكورة من باب المثال، و المراد كل ما وضع لهذه الامور بحيث كان المقصود منها ذلك. الظاهر عدم الجواز كما هو صريح شرح الارشاد لفخر الاسلام و المقنعة (2) و ظاهر السرائر (3)، و يدل عليه الاجماع المنقول عن المنتهى حيث قال في المحكي عنه (يحرم عمل الاصنام و غيرها من هياكل العبادة المبتدعة و آلات اللهو كالعود و المزمر و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و الاربعة عشر و غيرها من آلات اللهو بلا خلاف بين علمائنا في ذلك) (4). و عن الغنية (5) الاجماع على تحريم أجر عملها و هو ظاهر في تحريم العمل، و عدم الملازمة بين تحريم الاجر (و بين) (6) عملها لا تنافي الظهور فتأمل.

و يدل على ذلك مضافا الى الاجماع جملة من الاخبار منها المروي عن جامع البزنطي قال: (بيع الشطرنج حرام و اكل ثمنه سحت و ايجادها كفر و اللعب بها شرك) (7)، و في بعض النسخ (اتخاذها كفر) و هو يدل على المطلوب بوجه، بل يمكن الاستدلال عليه بما دل من الاخبار على أن الشارع لا يريد وجودها في الخارج لما فيه من الفساد، و لهذا أمر بكسرها على سبيل الفور و جعل ذلك من الواجبات الكفائية


1- المصدر نفسه، 1/ 175.
2- الشيخ المفيد، المقنعة، 585.
3- ابن ادريس، السرائر، 2/ 214- 215.
4- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1011.
5- ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع، 399.
6- إضافة يقتضيها السياق.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 241.

ص: 80

حتى انه لم يحكم بضمان متلفها حتى لو توقف اتلاف الصورة على اتلاف المادة، جوّزه الشارعُ بل أوجبه، و لم يترتب عليه ضمانٌ كما ستسمع هذا كله، مما يدل باوضح دلالة على حرمة عملها، بل بعد أن كان اتلافها من باب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ابقاؤها و عدم كسرها من باب الاعانة على الاثم، كان ايجادها من باب الاعانة على الاثم بطريق أولى، و يمكن الاستدلال على ذلك بخبر التحف حيث قال فيه (انما حرّم الله الصناعات التي هي حرام كلها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كل ملهوّ به و الصلبان و الاصنام و ما أشبه ذلك) (1) الى أن قال (فحرام تعليمه و العمل به و أخذ الاجرة عليه و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات) فان الظاهر من قوله (و أخذ الأجرة عليه) أي أخذ الاجرة على عمله لا على العمل به، و قوله (و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات) يدل على ذلك ايضا، بل يمكن الاستدلال عليه بالمرسل لقوله (عليه السلام): (و المقلب لها- أي الشطرنج- كالمقلب لحم الخنزير) (2)، لانه كناية عن تحريم التقلب فيه. و من هنا قال جدي المرحوم في شرح القواعد: إن ظاهر الاجماع و الاخبار عدم جواز العمل و الاستعمال و الانتفاع و الابقاء و الاكتساب بجميع وجوهه (3).

[المقام الثاني:] استعمال آلات اللهو

المقام الثاني: في انه هل يجوز استعمالها و الانتفاع بها بعد عملها؟ قد سمعت ما ادّعاه في شرح القواعد من ظاهر الاجماع و الاخبار على عدم جواز الاستعمال و الانتفاع بها بل هو صريح خبر ابي بصير حيث يقول فيه (و الخائض يده فيها كالخايض يده في لحم الخنزير) (4)، و مثله المرسل حيث يقول فيه (و المقلب لها- أي الشطرنج- كالمقلب لحم الخنزير) و يؤيد ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى مما يدل على وجوب إتلافها، لأن وجودها مما يبعث على الفساد.


1- ابن شعبه، تحف العقول، 250.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 241.
3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 21.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 241.

ص: 81

و من هنا يعلم انه لا فرق في حرمة الانتفاع بها بين كون الانتفاع بها في ما وضعت له أو في غيره، و بين كون المنفعة محللة أو محرمة كما يقضي به اطلاق الاخبار المتقدمة. نعم يظهر من الشهيد (رحمه الله) جواز الانتفاع بها مع بقائها على هيئتها في الوجه المحلل، لانه قال في المسالك (إن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرم على تلك الحالة منفعة مقصودة فاشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها) (1). و فيه ان المفهوم من الادلة أن ما صدق عليه اسم من هذه الاسماء لا يريد الشارع وجوده في الخارج لما يترتب عليه من الفساد، و لهذا أوجب إتلافه كفاية كما ستسمع. و القول بجواز الانتفاع بها مع صدق الاسم عليها مما ينافي غرض الشارع.

[المقام الثالث:] إتلاف آلات اللهو

المقام الثالث: في وجوب أعدامها و اتلافها، و الظاهر انه واجب على سبيل الكفاية كما يستفاد من كلام الاصحاب، و ربما تشعر بذلك أخبار الباب، بل يمكن ادعاء الاجماع على ذلك، و الظاهر أنه من الواجبات الفورية، و كأنّ الحكمة فيه مضافا الى ما يترتب على وجودها من الفساد امتناع الناس من عملها و صنعها، و لا فرق في هذا الحكم بين المالك و غيره، و لا يسقط الوجوب بالقطع باتلاف المالك لها ما لم يتشاغل بذلك و الذي يجب اتلافه انما هو الصورة دون المادة.

نعم لو توقف تلف الصورة على تلف المادة وجب اتلافها و لا ضمان على المتلف، لأن المادة في ضمن الصورة غير مملوكة لمالكها بحكم الاستصحاب، و لان القول بخروجها بالتصوير عن الملك يقتضي القول بدخولها في الملك بعد الكسر، و كل منها لا دليل عليه مع مخالفته للأصل، بل القول بخروجها عن الملك بالتصوير يقتضي عدم ضمانها بالغصب و بالتلف و هو مشكل جدا، بل لأن الشارع المقدس اسقط احترامها و ماليتها فيما لو توقف تلف الصورة على تلفها، و لو لم يتوقف اتلاف الصورة على اتلاف المادة، فهل يجوز إتلاف المادة في ضمن إتلاف الصورة أو لا؟ وجهان ينشئان من إطلاق الأمر بالإتلاف و الكسر، و من حرمة التصرف في مال الغير إلا بقدر الضرورة


1- الشهيد الثاني، مسالك الافهام، 4/ 10.

ص: 82

المأذون فيه، و الذي يقوى في النظر الجواز و كونه مخيّرا في طرق الإتلاف، و عليه فهل يضمن المادة في صورة عدم التوقف أو لا؟ وجهان ينشئان من قوله (عليه السلام): (من أتلف مال غيره فهو له ضامن) (1)، و من لزوم الفساد بالتضمين لتوقف الناس من الإتلاف معه. و كون الإتلاف بإذن الشارع فلا يستعقب ضماناً، و مما ذكرنا يعلم أنه لا يجب على المتلف مراعاة الأقرب فالأقرب إلى حفظ المادة من أنواع الإتلاف، بل هو مخيّر في جميع كيفياته و جهاته و الله العالم بحقائق أحكامه.

[المقام الرابع:] التكسب بآلات اللهو

المقام الرابع: في حرمة التكسب بالآلات المذكورة، و هو مقطوع به في كلام الاصحاب بل حكى عليه الاجماع جمع من المتأخرين، و الاخبار بذلك مستفيضة، منها المروي عن الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ) (2) فان فيه (كل هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من الله محرم) (3) و المروي عن جامع البزنطي، قال: (بيع الشطرنج حرام و أكل ثمنه سحت) (4)، و المروي عن الفصول المهمة فان فيه (فحرام تعليمه و تعلمه و العمل به و أخذ الاجرة عليه و جميع التقلب فيه من جميع الحركات كلها) (5) و يدل على ذلك قوله (عليه السلام): (إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه) (6)، لأن المفهوم من الخبر على ما ذكرنا (إذا حرم الله شيئاً) أي حرمه بشي ء مطلق، و تحريمه كذلك ينصرف الى تحريم منافعه الغالبة و هذه الاشياء منافعها الغالبة محرمة جزما، فان هذه الآلات من حيث هي انما ينتفع بها في المحرم، و لو أمكن الانتفاع بها بغير محرم فهي منفعة نادرة، و لا شك أن المنفعة المحرمة هي الغالبة فيها و يدل على


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار.
2- مائدة، 90.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 240.
4- المصدر نفسه، 12/ 241.
5- ابن شعبة، تحف العقول، 250.
6- الدار قطني، سنن الدار قطني، 3/ 7، الطوسي، الخلاف، 3/ 184.

ص: 83

ذلك ايضاً ان دفعها للغير ببيع و نحوه من المعاونة على الاثم و العدوان المنهي عنها في صريح القرآن.

و الحاصل أن التكسب بها على هيئتها و صورتها محرم جزما من غير فرق بين ان يكون التكسب بالهيئة أو بالمادة التي في ضمن الهيئة قال جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرح القواعد بعد الحكم بتحريم التكسب بها (من غير فرق بين قصد الجهة المحللة و غيرها و لا بين قصد المادة و قصد الصورة) (1) و يظهر من بعض المعاصرين جواز التكسب بالمادة في ضمن الصورة، قال: (إن أريد ب (قصد المادة) كونها هي الباعثة على بذل المال بازاء ذلك الشي ء و ان كان عنوان المبيع المبذول بإزائه الثمن هو ذلك الشي ء فهو حسن، لان بذل المال بازاء هذا الجسم المتشكَل بالشكل الخاص من حيث كونه مالا عرفا بذل للمال على الباطل، و ان أريد ب (قصد المادة) كون المبيع هي المادة سواء تعلق البيع بها بالخصوص، كأنْ يقول: بعتك خشب هذا الصنم، أو في ضمن مجموع مركب كما لو وزن له وزنة حطب، فقال: بعتك هذا الحطب فظهر فيه صنم أو صليب، فالحكم ببطلان البيع في الاول و في مقدار الصنم في الثاني مشكل، لمنع شمول الادلة لمثل هذا الفرد، لان المتيقن من الدلالة المتقدمة حرمة المعاوضة على هذه الامور نظير المعاوضة على غيره من الاموال العرفية، و هو ملاحظة ما يتقوّم به مالية الشي ء من المادة و الهيئة و الاوصاف) (2).

أقول: هذا من حيث ملكية المادة في ضمن الصورة و ما ليتها، و لكن ظاهر الادلة المذكورة المنع من ذلك، لان ظاهرها عدم إرادة الشارع وجود تلك الاشياء في الخارج و عدم بقائها، و لا شك ان تجويز بيع المادة وسيلة لبقائها بل هو مثار لمادة الفساد التي يريد قمعها الشارع، فلسنا ندّعي ان مالية المادة لا تكون الا بشرط الصورة، بل نقول ان المادة و ان كانت مالا لكن الشارع نهى عن التكسب بها ما دامت على هذه


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء.، شرح القواعد، 21.
2- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 113، باختلاف قليل في الألفاظ.

ص: 84

الصورة، لكونها مثارا للفساد، بل ربما يمكن ادعاء انه يصدق عرفا ان هذا بيع للشطرنج و ان كان المبيع المادة في ضمن الصورة، و هو منهي عنه كما هو صريح الادلة، بل ربما ندّعي ان المادة غير مستقرة البقاء، فلا يجوز التكسب بها من جهة أخرى، و هي ان دفع المال في مقابلها ما دامت على هذه الصورة سفه صرف، لأن الشارع أباح إتلافها في إتلاف صورتها لكل أحد فلا تكون مطمئنا ببقائها، فدفع المال في مقابلها سفه صرف.

و الحاصل دعوى جواز التكسب بالمادة في ضمن الصورة مما لا وجه (له) (1) و في المسالك (ان امكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرم على تلك الحالة منفعة مقصودة فاشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها الا ان هذا الغرض نادر، فان الظاهر أن ذلك الموضوع المخصوص لا ينتفع به الا في المحرم غالبا، و النادر لا يقدح، و من ثمّ أطلقوا المنع من بيعها) (2)، و ناقش فيه في جواهر الكلام ب (عدم مدخلية المنفعة النادرة بعد فرض كون المقصد المعظم منه محرما كما هو المفروض في محل البحث) (3) و هي كما ترى، ثمّ قال و لو فرض (ان) (4) للشي ء منفعتين مقصودتين إحداهما محللة و الاخرى محرمة دار الحكم مدار القصد) (5)، و هل ذلك هو المراد له؟، الا انه خروج عن المقام.

أقول: ان كان قصد المنفعة المحللة يخرجه عن صدق الاسم عليه عرفا خرج عن كونه آلة لهو و مع صدق الاسم عليه لا يجوز التكسب به مطلقا و ان كانت له منفعة محللة و ان قصدها حال التكسب و ان كانت غالبة لما عرفت من عدم جواز الانتفاع له بتلك المنفعة، و متى حرم الانتفاع بها لم يجز بيعه لها (6)، كما هو واضح و في المحكي عن


1- إضافة يقتضيها المقام.
2- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 4/ 10.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 26.
4- إضافة من الجواهر.
5- المصدر نفسه، 22/ 26.
6- العبارة في المخطوطة (و متى لم يحرم الانتفاع به لها لم يجز بيعه لها) و الظاهر أنها كما أثبتناها.

ص: 85

موضع من التذكرة جواز بيعها اذا كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر، و كان المشتري ممن يوثق بديانته (1)، و تبعه عليه جماعة من متأخري المتأخرين و جعله احد الوجهين في المسالك (2) و محكي جامع المقاصد (3)، بل في الاول أستحسنه بعد أن حكاه عن التذكرة مع زوال الصفة.

و فيه ما لا يخفى من منع مدخلية الكسر اللاحق في الحكم بالحرمة، ضرورة صدق كون العوض ثمن شطرنج مثلا، و إخراجه بعد ذلك عن الاسم بالكسر غير مجدٍ كما هو واضح بأدنى تامل. و دعوى- ان البيع بشرط الكسر أو ممن يوثق بكسره صحيح لان أدلة المنع لا تشمل مثل هذه الصورة- مما لا وجه له، لان أدلة المنع مطلقة فتقييدها بغير هذه الصورة محتاج الى مقيد و هو في المقام مفقود.

بيع السلاح على أعداء الدين

مسألة:

من جملة ما يحرم التكسب به بيع السلاح على أعداء الدين، و انما يحرم ذلك في مقامين:

أحدهما: ما لو قصد البائع إعانة اعداء الدين بذلك، و ذلك لتحقق التعاون المنهي عنه، و لا فرق في ذلك بين زمان الهدنة و غيره و لا بين كون المبيع سلاحاً أو غيره من الجِنة و نحوها بل يحرم بيع كل ما تتقوى به شوكتهم و تتقوّى به كلمتهم مع قصد ذلك، لأن ذلك ركون اليهم و تقوية لهم و اعلاء لشأنهم و اعانة لهم و قد نُهينا عن ذلك، بل أمرنا باذلالهم كما لا يخفى على من تامل الاخبار و حام حول تلك الديار و لا فرق ايضا بين الكفار و غيرهم من الظلمة كما لا يخفى.

ثانيها: بيع السلاح على أعداء الدين و الحرب قائمة، و ذلك للنصوص المتكثرة التي منها قول الصادق (عليه السلام) في خبر السراج (4) في جوابه حيث سئل عن بيع السلاح


1- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 465.
2- الشهيد الثاني، مسالك الافهام، 3/ 122.
3- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 16.
4- في المخطوطة (السراد) و التصحيح من الوسائل.

ص: 86

(لا تبعْه في فتنة) (1)، و صحيح علي بن جعفر المروي عن كتاب مسائله و قرب الاسناد، سأل أخاه (عليه السلام) عن حمل المسلمين الى المشركين التجارة فقال: (اذا لم يحلموا سلاحا فلا بأس) (2). و ما في وصية النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) في خبر حماد بن أنس (3): (يا علي كفر بالله العظيم من هذه الامة عشرة أصناف، الى أن قال- و بائع السلاح من أهل الحرب) (4).

و خبر هند السراج قال لأبي جعفر (عليه السلام): (أصلحك الله تعالى إني كنت أحمل السلاح الى الشام فابيعه منهم، فلما أن عرفني الله هذا الأمر ضقْتُ بذلك، و قلت لا أحمل الى أعداء الله تعالى، فقال: احمل اليهم و بعهم فان الله يدفع بهم عدونا و عدوكم- يعني الروم- فإن كان الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعين به علينا فهو مشترك) (5)، و حسن ابي بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له حكم السراج:

(ما تقول فيمن يحمل لأهل الشام السُّرُج و أداتها؟، فقال: لا بأس أنتم اليوم بمنزلة اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم)، أنكم في هدنة، و ان كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا اليهم السروج و السلاح) (6)، الى غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك، و هي و إن اشتملتْ على ما دلّ بإطلاقه على حرمة بيعه مطلقاً، و اطلق المنع لإطلاقها بعض الاصحاب الا أنه يجب حمل المطلق


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 70.
2- المصدر السابق، 12/ 70.
3- في الوسائل (و باسناده عن حماد بن عمرو و انس بن محمد عن أبيه جميعاً).
4- المصدر نفسه، 1/ 71.
5- المصدر نفسة، 12/ 70، باختلاف قليل في الألفاظ.
6- المصدر نفسه، 12/ 69، باختلاف قليل في الألفاظ.

ص: 87

منها على المقيد فيكون مدلولها حرمة البيع مع قيام الحرب من غير فرق بين قصد البائع الاعانة و عدمه، فما عن البعض من اعتبار الامرين من القصد و قيام الحرب في غير محله، فيكفي في التحريم حصول أحد الامرين من قيام الحرب و القصد، للنصوص في الاول و للإعانة في الثاني.

و دعوى حصول الاعانة مع قيام الحرب و إن لم يحصل قصد الاعانة فيكون النهي عن الاعانة من جملة ما يدل على التحريم في الثاني مما لا وجه له لعدم صدق الاعانة مع عدم قصدها، و على تقدير تسليم صدقها فالمنهي عنه التعاون الذي لا يتحقق الا بقصد كل واحد منها اعانة الآخر و كون كل واحد منهما ظهيرا للآخر في وقوع الفعل، و إلا فدعوى أن المشاركة في شرائط وقوع الفعل من الاعانة كما ترى، ضرورة عدم امكان استقلال احد بالفعل مع جميع شرائطه، فيلزم أن يكون كل من أوجد بعض شرائط الفعل معينا للفاعل، و هذا مما تشهد به ضرورة العرف.

الإجارة و البيع للمحرمات
اشارة

مسألة:

من جملة ما يحرم التكسب به إجارة السفن و المساكن للمحرمات و بيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنماً.

أقول: لا يخفى ان التكسب بهذه الامور لا يخلو من صور، لأن المتبايعين إما أن يشترطا ذلك في ضمن العقد أو لا. و الثاني إما أن يتفقا عليه بحيث يبنى العقد على ذلك او لا. و الثاني أما أن يكون ذلك مقصودا لهما أو للبائع فقط على أن يكون هو غاية العقد أو لا. و الثاني إما ان يعلم البائع ان المشتري يعمل المبيع خمرا أو لا، فهنا مباحث:

المبحث الأول: ما اذا اشترط ذلك في متن العقد و اتفقا عليه بحيث بني العقد عليه،

فلا كلام في البطلان، بل في جواهر الكلام (فلا خلاف أجده فيهما مع التصريح بالشرطية أو الاتفاق عليها على وجه يبنى العقد عليها) (1)، بل نسبه في محكي مجمع


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 30.

ص: 88

البرهان الى ظاهر الأصحاب (1)، و عن المنتهى حكاية الإجماع (2) عليه و عن الغنية الإجماع على عدم صحة اجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكان ليباع فيه، كما عن الخلاف حكاية ذلك و نسبته الى أخبار الفرقة (3)، و نفى عنه الخلاف بعض المعاصرين، و يدل عليه مضافا الى ذلك أنه من الاعانة على الاثم التي نهى الشارع عنها، و ان دفع المال في مقابلة ذلك مع الالزام، و الالزام- بصرفه في الجهة المحرمة التي نهى الشارع عنها و أسقطها من درجة الاعتبار أكل للمال بالباطل، فلا يجوز لقوله تعالى: (لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ)* (4).

و يدل عليه أيضا مضافا لما مر خبر صابر (5) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤجر بيته فيباع فيه الخمر قال حرام أجرته) (6)، و كيفية دلالة الخبر على المطلوب هو اما أن تنزّل على ما لو أشترط ذلك في ضمن العقد او تبانيا عليه و لا كلام في دلالة الخبر حينئذٍ، أولا يُتنزّل على ذلك بل على ما لو علم المؤجّر أن المستأجر يفعل ذلك، و متى حرمت الأجرة في هذه الصورة حرمت في صورة اشتراط الأمر المذكور و التباني عليه بطريق أولى كما لا يخفى. و هذا الخبر معارض بخبر ابن أذينة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر السفينة أو دابته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: لا بأس) (7) لكنه محمول على ما إذا اتفق الحمل من دون أن يؤخذ شرطا في العقد أو يقع التباني عليه لأن خبر صابر (8) نص بصورة الاشتراط أو


1- المحقق الاردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان 8/ 49.
2- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1010.
3- أنظر الجواهر، 22/ 30.
4- بقرة، 188.
5- في المخطوطة (جابر) و التصحيح من الوسائل.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126، باختلاف في الألفاظ.
8- في المخطوطة (جابر) و التصحيح من الوسائل.

ص: 89

التباني و ظاهر في صورة الاتفاق، و خبر ابن أذينة نص في صورة الاتفاق و ظاهر في صورة الاشتراط، و متى ما تعارضا اطّرح ظاهر كل منهما بنص الآخر فيبقى الأول نص في صورة الاشتراط و الثاني نص في صورة الاتفاق.

و لو قلنا بالتعارض و التساقط قلنا بالاجماعات و العمومات السابقة كفاية. و يمكن الاستدلال على ذلك بمكاتبة ابن أذينة عن الرجل (له خشب فباعه ممن يتخذه صلباناً؟، قال: لا) (1)، و رواية عمر بن حريث (عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب أو الصنم؟، قال: لا) (2) و الاستدلال بفحوى الخبرين المذكورين؛ لأنه إذا حرم بيع الخشب ممن (3) يعلم أنه يعمله صليباً او صنماً حرم بيعه بهذا الشرط و كذا في صورة التباني. و أما حمل الخبرين المذكورين على صورة الاشتراط و التباني فبعيد جدا لانه لا يتعلق للمسلم غرض في جعل خشبته صليبا أو صنما حتى ننزّل الأخبار على صورة اشتراط التباني عليه.

فان قلت: كيف نزّلت خبر صابر (4) على صورة الاشتراط؟، قلت: فرق بين المقامين؛ لأنه قد يتعلق للمسلم غرض في إجارة دكانه لبيع الخمر و هو زيادة أجرته أو غير ذلك من أنه إذا صار معلوما بذلك تزيد قيمة عينه، بخلاف صيرورة خشبه صنما، فانه لا حاجة له به، و لا فرق بين ما ذكر و بين غيره، فان كل ذي منفعة محللة أشترط صرفه في الحرام كان بيعه باطلا؛ لانه من أكل المال بالباطل، ثمّ لا فرق بين الشرط في ضمن العقد و التباني على صرفه في المحرم قبل العقد بحيث بني عليه، و لو فرض فرق فهو في لزوم الشرط و عدمه و ذلك لا دخل له في بطلان المعاملة، و من هنا يعلم أن فساد المعاملة ليس من جهة فساد الشرط، بل هي فاسدة حتى لو قلنا بأن فساد الشرط لا يستلزم فساد العقد؛ لأن فسادها من أكل المال بالباطل.


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 6/ 373.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 227.
3- في المخطوطة (من) و الصحيح ما أثبتناه.
4- في المخطوطة (جابر) و التصحيح من الوسائل.

ص: 90

المبحث الثاني: الاتفاق على المحرم في العقد، أن يتواطأ المتعاقدان على الانتفاع بالعين المستأجرة في خصوص المنفعة المحرمة قبل العقد أو بعده

بلا فصل بحيث يبنى العقد على ذلك في المتقدم، و يحصل من لواحقه و توابعه في المتأخر، و الظاهر البطلان هنا؛ لأنا إن الحقنا ذلك بالشرط و جعلناه منه كما يظهر من كلام جمع من الأصحاب في باب الشروط فلا كلام؛ لأن جميع ما دل على البطلان في المقام الأول لا يدل هنا، و ان لم نلحقه بالشرط و نجعله منه فالبطلان واضح أيضا لانه يفترق المقام عن الشرط في اللزوم و عدمه، فان قلنا بكونه من باب الشرط كان لازما في ما يلزم و كان شرطا في متن العقد، و ان لم نقل بكونه من الشرط فلا يلزم، و أما في البطلان فلا فرق بينه و بين الشرط، لأن مناط البطلان صدق أكل المال بالباطل المنهي عنه في صريح الكتاب و هو صادق في الغرض المذكور فيكون البيع باطلا في الغرض المذكور لوجود مناط البطلان.

و من هنا يظهر (أن) (1) فساد البيع في صورة الاشتراط ليس منشؤه سراية فساد الشرط الى فساد المشروط بل يلزم القول في البطلان هنا و إن لم نقل بالسراية المذكورة. و من هنا يعلم بطلان بيع الجارية المغنية و العبد المغني و المقامر، إذا كان للصفة المذكورة دخل في زيادة الثمن، و على ذلك تحمل النصوص الواردة في أن ثمن الجارية المغنية سحت، و انه قد تكون للرجل ملهية، و ما ثمنها الا كثمن الكلب، مضافا الى أن أكل ما قابل الصفة من الثمن أكل مال بالباطل و التفكيك- بين القيد و المقيد، فيصح ما قابل المقيد و يبطل ما قابل القيد- غيرُ معروف عرفا، بل المعروف بين الأصحاب عدم توزيع الثمن على الصفة و الموصوف و القيد و المقيد. أ لا ترى أنهم يقولون أن الشروط لا تقابل بشي ء من الثمن و ان زاد الثمن بوجود الوصف و القيد.

هذا كله إذا كان للوصف دخل في زيادة الثمن، و ان لم يكن كذلك بل كان من الدواعي و البواعث فلا كلام في صحة العقد حينئذ، بل قد عرفت فيما تقدم في آلات اللهو أن الثمن لا يوزع على المادة و الصورة مع أن الصورة جزءٌ، لكنْ حيث كان جزءا عقليا كان كالقيد للمادة فلا يقابل بمال على حدة. نعم لو كان المبيع مركبا له أجزاء خاصة خارجية أو أمور متعددة وزع الثمن عليها و أنحل العقد عليه الى عقود


1- إضافة يقتضيها المقام.

ص: 91

متعددة فيبطل في ما يبطل و يصح في ما يصح، كبيع الشاة و الخنزير أو الخل أو الخمر أو نحو ذلك.

و حيث عثرت على كلام لبعض الاصحاب كالأشكال على ما ذكرناه من الانحلال و هو أن العقد سبب في انتقال المبيع الى المشتري و الثمن الى البائع، فإن تمّ سبباً أثر في انتقال جميع المبيع و إلا فلا أثر له، و تبعيض المسبب مما لا وجه له. و بعبارة أخرى ان عاد التبعيض الا تبعيض السبب فلا سبب، و ان عاد الى تبعيض المسبب فهو محال عقلا بعد فرض السببية.

أقول: هذا الكلام في الاسباب العقلية و أما في الاسباب الشرعية فلا، و العقد و ان كان سببا و لكنه يتعدد بتعدد متعلقه و ينحل الى عقود متعددة، و ليس ذلك من خواص العقد أيضا، بل الايقاع مثله فيما لو تعدد متعلق الايقاع أنحل الى إيقاعات متعددة، و ليس المراد من الانحلال الى متعدد عدها متعددة قطعا، حتى أن من نذر بيوعاً متعددة يبرّ نذره لو باع أمرا متعدداً بعقد واحد، أو من نذر طلاقات متعددة يبرّ نذره لو طلق نسوة متعددة بطلاق واحد؛ لان ذلك يتبع الاسم و هو لا يحصل هنا. نعم يكون بحكم المتعدد، فالعقد الواحد المتعلق بأمور متعددة في حكم العقود المتعددة بالنظر الى الاحكام اللاحقة، كما أن المراد من الانحلال الى المتعدد المتعدد من جنس ذلك العقد، فالبيع ينحل الى بيوع و الطلاق الى طلاقات، كما أن المراد من المتعدد المجانس في مورد العقد لا في غير مورده، فلا ينحل بيع العين الى بيعين، بيع العين و بيع المنفعة؛ لأن المنفعة ليست موردا للعقد، كما لا ينحل الى بيع و اجارة لأن الاجارة ليست من المجانس فلا ينحل العقد الى البيع و إليها، كما أن المراد من المتعدد الذي يتعدد العقد بتعدده هو ما يكون قابلا لتعلق العقد به مستقلا، فلا ينحل عقد الامرأة الواحد الى عقدين لو ظهر نصفها مملوكا للغير لعدم قابلية النصف لتعلق العقد مستقلا، و يدل على الانحلال المذكور أمور:

أحدها: الاجماع، فانهم يحكمون في الفروع الكثيرة بالتعدد و الانحلال المذكور من دون نكير، و هو إجماع منهم و هو الحجة في المقام.

ص: 92

ثانيها: الاستقراء، فإن تتبعنا موارد العقود و الايقاعات فوجدناهم يحكمون بالانحلال المذكور في أغلب المقامات و الموارد و ذلك أما لنص او اجماع، فكذا في ما لا دليل عليه.

ثالثها: أن ظاهر هذه الاسباب الشرعية التي جعلها الشارع أسبابا للنقل أنها أسباب لنقل كل ما حكم الشارع بكونه قابلا للنقل و لتعلق تلك الاسباب، فكل عقد تعلق بمورد من الموارد أثر بجميع أجزائه القابلة لتعلق ذلك السبب، كتأثيره في المجموع المركب فتخلفُ بعض هذه الاجزاء لفقد شرط او وجود مانع لا يضرّ في الجزء الآخر.

لا يقال إن ظاهر التعلقِ بالامر المجموعي يمنعُ من الانحلال لانا نقول: أن قصاراه انا لا ندري ان هذا التعلق بهذه الامور ارتباطي، بمعنى أن التعلق بهذا الجزء موقوف على التعلق بالآخر أو الاصل عدم الارتباط. نعم يشكل على الانحلال المذكور أمران:

أحدهما: أن مقصود البائع و المشتري بيع المجموع بالمجموع فلو لم يسلّم بعض المبيع لم يكن بيعه البعض الآخر مقصودا للبائع و المشتري و العقود تابعة للمقصود، فيكون على تقدير الصحة في البعض ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

ثانيهما: أنه يعتبر في المبيع المعلومية و كل جزء غير معلوم ما يقابله من الثمن (1) فلو انحل إلى بيوع متعددة كان كل مبيع غير معلوم الثمن فيكون البيع باطلا من جهة تطرق الجهالة. و الجواب عن الاول أن دعوى- أن المقصود بيع المجموع بالمجموع، و ان مقابلة الابعاض بالابعاض غير ملحوظة للبائع و المشتري- ممنوعة، بل الظاهر من المعاوضات مقابلة الابعاض بالابعاض خصوصا بعد ملاحظة المالية في الجميع و القيمة فيه و عدم رضا المشتري الا بالمجموع في بعض الموارد لا تنافي ذلك؛ لانه قد يتعلق غرض للمشتري بالهيئة التركّبية أحيانا كما لا يخفى، و الغالب خلاف ذلك. و عن الثاني أن جهالة النسبة لا تنافي المعلومية فإنه إذا كان مجموع الثمن معلوما و مجموع المبيع معلوما فلا ضير في (أنّ) (2)

جهالة النسبة لا تنافي المعلومية، فإنه إذا كان مجموع الثمن


1- الظاهر وجود عبارة ساقطة.
2- إضافة يقتضيها المقام.

ص: 93

معلوما و مجموع المبيع معلوما فلا ضير في جهالة ما يقابل الجزء بعد معلومية المجموع. هذا و لتمام الكل محل آخر.

المبحث الثالث: البيع و الايجار بقصد المحرّم، أن يبيع الخشب بقصد أن يعمله صنما أو صليبا،

أو يؤجر الدار أو الدكان بقصد أن يصنع او يبيع فيه الخمر.

و الظاهر البطلان في ما لو كان القصد من البائع و المشتري معا، و في ما لو كان القصد من البائع فقط، و يدل عليه مضافا الى الإعانة على الاثم الاجماع المنقول عن الخلاف و الغنية على عدم صحة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكان ليباع فيه، بل عن الخلاف نسبته الى أخبار الفرقة و هذه العبارة التي نقل الاجماع عليها شاملة لصورة الاشتراط و التواطي و القصد فتخصيصها بالبعض دون البعض كصورة الاشتراط دون غيرها مما لا وجه له، أ لا ترى أنه في الجواهر بعد أن حكى عن ظاهر الاصحاب مساواة الحكم في الصور الثلاثة، قال: و لعل الدليل على ما لا يندرج منه في آية التعاون الذي قد عرفت المراد منه، الاجماع المحكي (1)، و الظاهر أنه أن اريد بالاجماع المحكي ما ذكرناه (2)، بل يستفاد ذلك من كل من عبر كعبارة المحقق في الشرائع حيث قال: و إجارة المساكن و السفن للمحرمات و بيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنماً (3)، و هُمُ العلامة في القواعد (4) و التحرير (5) و الارشاد (6) و التذكرة (7) و الشهيد في الدروس (8) و اللمعة (9)، و المحقق في النافع (10) و يدل عليه أيضا النصوص الواردة عن


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 30.
2- توجد عبارة ساقطة هنا.
3- المحقق الحلي، شرائع الاسلام، 2/ 3- 4.
4- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 2/ 7.
5- العلامة الحلي، تحرير الأحكام، 1/ 160.
6- العلامة الحلي، إرشاد الأذهان، 1/ 357.
7- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 582.
8- الشهيد الأول، الدروس، 3/ 166.
9- الشهيد الأول، اللمعة الدمشقية، 92.
10- المحقق الحلي، المختصر النافع، 116.

ص: 94

أهل الخصوص كخبر جابر (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤجر بيته فيباع فيه الخمر، فقال: حرام أجرته) (1)، و ذيل مكاتبة ابن أذينة في الحسن أو الصحيح للصادق (عليه السلام):

(عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذ صليبا، قال: لا) (2)، و خبر عمرو بن حريث (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب و الصنم قال: لا) (3)، فانها شاملة بإطلاقها لصورة القصد، بل ربما يُدّعى كونها نصا فيها و ظاهرة في غيرها فتبصّر. و ما يعارضها من الاخبار الدالة منزّلة على الصورتين الآتيتين أن شاء الله تعالى، كما تسمع ذلك مفصلًا.

هذا كله لو حصل القصد من البائع و المشتري أو من البائع فقط و أما لو حصل من المشتري فقط فالظاهر الصحة لقيام السيرة القطعية على صحة إجارة الدور و المساكن للملوك و الامراء و الوزراء و أعوانهم و أشياعهم و اتباعهم و بيع المطاعم و الملابس و السلاح عليهم مع أنه أنما يشترون ذلك للجنود و العساكر، فلو كان المقصود من المشتري مبطل لبطل العقد المذكور؛ لان الباطل من جانب باطل من الجانبين و السيرة القطعية على خلافه، و لا فرق في ذلك بين مخالفة البائع له في العقد و عدم قصد البائع. كل ذلك لما دل على وجوب الوفاء بالعقد و حلّية البيع مع الشك في شمول دليل المنع لذلك مضافاً الى ما عرفت من السيرة.

المبحث الرابع: البيع و الإيجار مع العلم بالمحرم، أن يؤجر الدكان ممن يعلم أنه يبيع فيه الخمر أو يبيع الخشب ممن يعلم أنه يصنعه صليباً.

و الظاهر أن لأصحابنا أقوالًا ثلاثة، فقيل و هو المشهور شهرة عظيمة محصلة و منقولة في جواهر الكلام أنه يجوز على كراهة (4)، و قيل بالتحريم و الفساد و هو المنسوب لجمع من الأصحاب منهم الشيخ في ظاهر التهذيب (5)، و العلامة في المختلف (6) و الشهيد في حواشي القواعد و الشهيد في


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 125- 126.
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 6/ 373.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 227.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 30.
5- الشيخ الطوسي، تهذيب الاحكام،، 6/ 372.
6- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 5/ 22- 23.

ص: 95

المسالك (1) و الروضة (2)، قال في مفتاح الكرامة: (و قد يلوح ذلك من جامع المقاصد (3)، و هو خيرة الشهيد في النهاية في المساكن و الحمولات (4)، و خيرة مجمع البرهان (5)، و الرياض في باب الإجارة (6)) (7)، و قيل بالتحريم و الصحة و هو المنسوب لابن المتوج.

أصبح المشهور على ما ذهبوا اليه بما دل على وجوب الوفاء بالعقود و حلية البيع و خصوص الأخبار التي منها صحيح ابن أذينة (كتبت الى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤجر سفينته ممن (يحمل) (8) فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: لا بأس) (9)، و مكاتبته الأخرى له أيضاً (عليه السلام): (سألته عن الرجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط، فقال: لا بأس) (10)، و خبر محمد بن أبي نصر: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن، قال فقال: لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، و إما إذا كان عصيرا فلا يباع إلا بالنقد) (11)، و خبر محمد الحلبي (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله خمراً قال: لا بأس به تبيعه حلالًا ليجعله حراماً (12) فابعده الله و أسحقه) (13)،


1- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 124.
2- الشهيد الثاني، الروضة البهية، 3/ 211- 212.
3- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 17- 18.
4- الشيخ الطوسي، النهاية، 369.
5- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان، 8/ 46- 47.
6- السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، 1/ 500.
7- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 38- 39.
8- ما بين المعقوفتين إضافة من الوسائل، الظاهر ان الناسخ أسقطها.
9- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 126.
10- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 127.
11- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 127.
12- في المخطوطة (حلال و يجعله ذلك حراماً) و التصحيح من الوسائل.
13- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 169.

ص: 96

و صحيح ابن أذينة (كتبت الى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له كرم، أ يبيع العنب (و التمر) (1) ممن يعلم انه يجعله خمرا أو مسكراً، فقال: أنما باعه حلالا في الآن الذي يحل شربه أو أكله (2) فلا بأس ببيعه) (3)، و خبر أبي كهمس (سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) الى أن قال، ثمّ قال (عليه السلام): هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمراً) (4)، و خبر رفاعة عن الصادق (عليه السلام): (أنه سئل عن بيع العصير ممن يخمره،: فقال حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثاً) (5)، و صحيح الحلبي عن الصادق (عليه السلام): (أنه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا قال: تبيعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب الي و لا أرى بالاول بأساً) (6)، و خبر يزيد بن خليفة الحارثي عن الصادق (عليه السلام): (سأله رجل و أنا حاضر، قال: أن لي الكرم فأبيعه عنبا، قال: فانه يشتريه من يجعله خمراً قال: بعه اذا كان عصيراً، قال: أنه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي، قال: بعته حلالا فجعله حراما فابعده الله تعالى) (7)، الى غير ذلك من الاخبار.

و حيث كانت معارضته بالاخبار المتقدمة الدالة على المنع بإطلاقها ألزم الجمع بين الاخبار بحمل الاخبار المانعة على صورة الاشتراط و التواطي و القصد منهما أو من البائع فقط، و هذه الاخبار على صورة العلم أو الظن و الشك، و لا تشمل الأخبار المذكورة صورة ما لو قصد البائع ذلك لظهورها في غير تلك الصورة، أ لا تنظر الى قوله (عليه السلام): (تبيعه حلالًا ليجعله (8) حراماً) (9) و إلى قوله (عليه السلام): (ألسنا نبيع تمرنا


1- إضافة من الوسائل.
2- في المخطوطة (يحل أكله و شربه أو أكله) و التصحيح من الوسائل.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 169.
4- المصدر نفسه، 12/ 169- 170.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 170.
6- المصدر نفسه، 12/ 170.
7- المصدر السابق، 12/ 170.
8- في المخطوطة (و هو يجعله) و الضمير زائد.
9- الحر العاملي، الوسائل، 12/ 169.

ص: 97

ممن يجعله شرابا خبيثاً) (1)، فتبقى صورة قصد البائع مشمولة لأدلة المنع من غير معارض لظهور الأخبار المذكورة في غيرها، على أن الاخبار المذكورة لا أشكال في دلالتها و قوتها على المعارض من جهة تأيّدها بالسيرة على المعاملة مع الملوك و الأمراء فيما يعلم صرفه في تقوية الجنود و العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، و إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم لذلك، و بيع المطاعم و المشارب للكفار في نهار شهر رمضان مع العلم بأكلهم فيه، و بيع بساتين العنب منهم مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا و بيع القرطاس مع العلم بأن منهم ما يتخذ كتب ضلال.

و المناقشة في دلالة الاخبار بإمكان حملها على توهم البائع أن المشتري يعمله خمراً أو على ارادة رجوع الضمير الى مطلق العصير لا التمر المبيع، في خبر ابن أذينة باحتمال عمل الخمر فيه لإرادة التخليل أو الجبر عليه أو على كونه لأهل الذمة الذين لهم أن يفعلوا ذلك أو على عدم العلم بحمله في خبره الآخر، كله كما ترى.

مما لا يجوز التكسب به مما لا ينتفع به

و تنقيح المسألة أن الاعيان التي يكتسب بها إما أن تكون مما لا ينتفع بها أصلا أو تكون مما ينتفع بها منفعة غير مستحسنة عند العقلاء كاللعب و نظائره، أو تكون مما ينتفع بها عند العقلاء منفعة مستحسنة، و لكنها غير مقصودة للعقلاء في المعاوضات و نحوها، أو تكون مقصودة للعقلاء في المعاوضات.

أما الاول: و هو ما لا ينتفع به أصلا، فلا يقبل الملك لعدم صدق اسمه عليه عرفا و لعدم شمول أدلة الملك من قبيل الحيازة و نحوها له و لا يقبل التمليك؛ لأن ما لا يقبل الملك لا يقبل التمليك لا مجانا و لا بالعوض؛ لأنه من جملة شروط التمليك، و المفروض عدمه، و لأصالة عدم تأثير الاسباب المملكة المتعلقة به. هذا كله إن قلنا إن من الاعيان ما لا ينتفع به أصلا و الا كانت المسألة فرضية.

و أما الثاني: و هو ما ينتفع به منفعة غير مستحسنة، فهو كما لا منفعة فيه أصلا؛ و ذلك لأن المدار في المنفعة و عدمها على المنفعة المستحسنة المعتبرة عند العقلاء


1- المصدر نفسه، 12/ 170.

ص: 98

و أما الثالث: و هو ما ينتفع به منفعة مستحسنة عند العقلاء لكنها غير مقصودة في باب المعاوضات، فإما أن يكون عدم اعتبار المنفعة عند العقلاء في باب المعاوضات لخسته أو لقلته، أما الاول كالبصاق و غيره من فضلات الانسان كالشعر و نحوه و القمل و نحوه، فالظاهر انه لا يملك لعدم شمول أدلة الملك له، و عدم صدق اسم الملك عليه.

نعم يثبت حق الاختصاص فيه على الظاهر لصدق الظلم بأخذه ممن هو في يده قهرا مع الاحتياج اليه، و لا يترتب عليه ضمانٌ بإتلافه، فلا يقبل التمليك لا مجانا و لا بالعوض، كما لا يخفى.

و أما ما لا ينتفع به لقلته كحبة الحنطة و نحوها، فالظاهر أنه مملوك لاستصحاب الملك في صورة بقاء الحبة بعد تلف الباقي؛ و لأنه يلزم- على القول بعدم الملك إنْ جَمَعَ مقدارا من الحنطة حبة حبة- ألا يكون مالكا لشي ء، و هو واضح البطلان، و احتمال ان للهيئة الاجتماعية مدخلا في حصول الملك كما ترى. و قيل بعدم قبوله الملك، و هو مما لا وجه له. و أما ضمانه بالاتلاف فعن العلامة (رحمه الله) عدم الضمان، و لعله لان الضمان فرع المالية و هي مفقودة في ذلك و إن كان مملوكا لقوله (عليه السلام): (من اتلف مال غيره فهو له ضامن) (1)، و ليس بشي ء بل الظاهر انه يضمن بالمثل لدليل (على اليد) (2) و لظاهر الاصحاب.

و أما التمليك المجاني فالظاهر قبوله على أشكال ينشأ من لزوم السفه فيه، و أما التمليك بالعوض فالظاهر عدم قبولِه له لأصالة الفساد في المعاملات، فمع الشك في شمول العمومات لذلك (3)؛ و لأن المعاوضة المذكورة من المعاوضات السفهية التي دل الاجماع على بطلانها، مضافا الى اقتضاء الاصل البطلان مع الشك في شمول الأدلة لها، و دعوى أن المعاوضة السفهية ما صدرت من سفيه، و أما مع صدورها من عاقلين فلا دليل على البطلان كما ترى؛ ضرورة أن المراد بالمعاملة السفهية هو ما يعده أهل العرف سفها و إن صدر من عاقل.


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار.
2- البيهقي، السنن الكبرى، 6/ 95.
3- توجد هنا عبارة ساقطة.

ص: 99

هذا كله في ما لا تكون فيه منفعة مقصودة في باب المعاوضات لخسته أو لقلته، و أما ما تكون فيه منفعة مقصودة للعقلاء في باب المعاوضات فلا كلام في قبوله الملك و التمليك مجانا و بالعوض لأدلة الملك و التمليك، و سيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان و تحقيق لهذه المسألة في شرائط المبيع فانتظر ذلك و الله العالم بحقائق احكامه.

عمل الصور المجسمة الحيوانية

مما يحرم التكسب به ما نص الشارع على تحريمه عينا لذاته لا لنجاسته كالنوع الاول و هو الاعيان النجسة، و لا لغايته كالنوع الثاني و هو آلات اللهو و هياكل العبادة المبتدعة، و لا للهيئة كالنوع الثالث و هو ما لا ينتفع به كما سمعت و هو أمور.

أحدها: عمل الصور المجسمة الحيوانية، و عن جمع من أصحابنا (رحمه الله) ان الصورة خاصة بالحيوان و ان التمثال يشمل الحيوان و الاشجار، فعليه يكون قيد الحيوانية توضيحيا، و المنقول عن الأكثر عدم التفرقة بين الصورة و التمثال، حتى ان المنقول عن البحار أن كلام الاكثر أوفق بكلام أهل اللغة، فانهم فسروا الصورة و المثال و التمثال بما يعم و يشمل غير الحيوان (1)، و عليه يكون قيدا احترازيا، و يمكن أن يكون توضيحيا أيضا و إن قلنا بعموم الصورة للحيوان و غيره لظهورها في خصوص الحيوانية و إن شملت غيرها ايضا، كما انها ظاهرة في خصوص المجسمة كما فَهِم الاكثر منها ذلك و إن (2) لم يكن جسما خارجا عنها، و ربما يعطي ذلك مقابلة الصورة بالنقش في بعض الاخبار، و على ذلك فيكون قيد المجسمة أيضا قيدا توضيحياً.

و الكلام في الصورة يقع في مقامين: الاول في الموضوع، و الثاني في الحكم.

أما المقام الاول: فليس المراد من الصورة ما يقصده المتكلمون و هو أن كل مادة متقوّمة بصورة، بل المراد منها عمل صورة لها نظير في الاعيان الخارجية، كما أنه ليس المراد من المجسمة ما اصطلح عليه المتكلمون من الجوهر القابل للابعاد، بل


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 80/ 243.
2- في المخطوطة (و ان ما لم)، و ما أثبتناه هو الصحيح.

ص: 100

المراد منها ما كان لها ظل عند حدوث الضوء فيه، فالنقش بالالوان على الجدران و إن كان جسما لكنه غير داخل في المجسمة هنا.

و تحقيق الحال أن الصورة إما مجسمة أولا، و كل منهما إما صورة حيوان أو غيره، فهذه أربعة صور، مجسمة لحيوان مجسم، و صور غير مجسمة لحيوان مجسم و هي المنقوشة على نحو الجدران و الفرش و الوسائد، و صور مجسمة لغير حيوان مجسم، كصورة الاشجار و النباتات المجسمة، و صور غير مجسمة لغير حيوان، كصورة الاشجار المنقوشة على نحو الوسائد و الجدران، و كل من الاربعة المذكورة إما أن تكون صورة الشي ء أو صورة صورته، فتكون الصور ثمانية، أما لو كان المصوَّر نفس الشي ء فصوره الاربعة المارة، و أما لو كان المصور صورته فصوره ايضا أربعة: صورة مجسمة لصورة حيوان مجسمة، و صورة غير مجسمة لصورة حيوان مجسمة، و صورة مجسمة لصورة غير حيوان مجسمة، و صورة غير مجسمة لصورة غير حيوان مجسمة. فهذه صور ثمانية، و لك أن تقول إن المصورة إما حيوانٌ أو غيره، و كل منهما إما ان يكون المصور هو أو صورته، و الصورة إما مجسمة أو غير مجسمة. فهذه ثمانية صور، و لو زدت الوهمي هو و صورته كانت الصور ست عشرة؛ لان الوهمي إما حيوان أو غيره، و المصور إما هو أو صورته، و الصورة إما مجسمة أو غير مجسمة. فهذه ثمانية أقسام، فيكون مجموع الصور ست عشرة صورة.

المقام الثاني: في بيان حكمها:

أما الصورة الاولى: منها و هي الصورة المجسمة لحيوان مجسم فلا خلاف في حرمة عملها و لا كلام، بل الاجماع بقسميه عليه محصلا و منقولا نقلا مستفيضا كاد أن

ص: 101

يكون متواتراً. و النصوص بذلك مستفيضة، منها خبر المناهي عن الحسين بن زيد (1) عن الصادق (عليه السلام): نهى رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) عن التصاوير، و قال: من صوّر صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفح فيها، و ليس بنافخ، و نهى أن يُنقش شي ءٌ من الحيوان على الخاتم) (2)، و منها خبر محمد بن مروان عنه (عليه السلام) ايضاً: (ثلاثة يُعذَّبون يوم القيامة: من صوّر صورة الحيوان يُعذَّب حتى ينفخ فيها) (3)، و منها المرسل عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من صوّر صورة عُذّب و كلّف أن ينفخ فيها، و ليس بفاعل) (4)، و منها صحيح محمد بن مسلم (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تمثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان) (5)، و منها صحيح محمد بن أبي العباس عن ابي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ و جلّ (يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ) (6) فقال: (و الله ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنها الشجر و شبهه) (7)، و منها خبر تحف العقول فان فيه (و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن فيه مثال الروحاني فحلال تعلمه و تعليمه) (8)، و ربما يشعر بذلك صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (لا بأس بتماثيل الشجر) (9)، الى غير ذلك من الاخبار.

و المناقشة فيها من حيث السند مما لا وجه لها بعد انجبارها بما سمعت من الاجماع المحصل فضلا عن المنقول، كما أن المناقشة في دلالتها من الهذر؛ لأن الصورة إما خاصة بالمجسمة أو ظاهرة فيها. و كيف كان فهي نص في الصور المجسمة، فلا ينبغي الريب في ذلك و لا التأمل.


1- في المخطوطة (الحسن بن يزيد) و التصحيح من الوسائل.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.
3- المصدر نفسه، 12/ 221.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 221.
5- المصدر نفسه، 12/ 220.
6- سورة سبأ، 13.
7- المصدر نفسه، 12/ 220.
8- ابن شعبة، تحف العقول، 249، و في التحف لا توجد (فحلال تعلّمه و تعليمه).
9- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.

ص: 102

و أما الصورة الثانية: و هي الصورة غير المجسمة لحيوان مجسم، فذهب جمع من اصحابنا الى تحريم عملها، و هو المنسوب الى ظاهر الشيخ في النهاية (1)، و صريح السرائر (2)، و المحكي عن حواشي الشهيد (رحمه الله) و الميْسيّة و المسالك (3)، و ايضاح النافع و الكفاية و مجمع البرهان، و تبعهم على ذلك جمع من المتأخرين منهم شيخنا المعاصر (4) (سلمه الله) و استندوا في ذلك الى بعض الاخبار، فمنها قوله (عليه السلام): (نهى ان يُنقش شي ءٌ على الخاتم) (5)، و منها قوله (نهى عن تزويق البيوت، قلت: و ما تزويق البيوت؟ قال: تصاوير التماثيل) (6)، و منها خبر تحف العقول حيث قال فيه: (و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني) (7)، و منها قوله (عليه السلام): (من جدّد قبراً و مثّل مثالًا فقد خرج عن الاسلام) (8)، و منها صحيح ابن مسلم (سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، قال لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان) (9).

و توجيه الاستدلال ان النقش و المثال و التمثال إما صريح في الصورة غير المجسمة أو ظاهر فيها خصوصا بعد أن نهى عن النقش على الخاتم فإن النقش على الخاتم صريح في ذلك، كما أن تزويق البيوت كذلك، كما أن ذكر الشمس و القمر في خبر محمد بن مسلم قرينة واضحة على إرادة مجرد النقش. و استدلوا أيضا بالاخبار المتعددة


1- الشيخ الطوسي، النهاية، 363.
2- ابن إدريس، السرائر، 2/ 215.
3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 125.
4- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 184- 185.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 221.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3/ 560.
7- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 335.
8- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3/ 562.
9- أحمد البرقي، المحاسن، 2/ 619.

ص: 103

(من صوَّر صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ) (1)، قالوا و استظهارُ- اختصاصها بالمجسمة من حيث ان نفح الروح لا يكون الا في الجسم، و كونُ النقش مما ينفخ فيه خلافُ الظاهر- لا وجه له، لامكان النفخ في النقش باعتبار محله بل يمكن بدون ذلك الاعتبار، بل بملاحة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء من الصبغ، كما أمر الامام (عليه السلام) الاسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر بمحضر الخليقة (2).

و الحاصل ان جعل النفخ- فيه قرينة على إرادة خصوص المجسم من الصورة لا في غيرها؛ لأن غيرها لا ينفخ فيه بعيدٌ كل البعد. و أيدوا ذلك بان الحكمة في التحريم هي التشبيه في الخالق في ابداع الحيوانات و اعضائها على الأشكال المطبوعة التي يعجز البشر عن نقشها على ما هي عليه، فضلا عن ابداعها و اختراعها، و التشبيه المذكور يحصل بالنقش و التشكيل كما يحصل بغيره، و الجميع كما ترى.

أما الاخبار الأُوَل فالصريح منها محمول على الكراهية؛ لان اكثرها غير صريح بذلك، خصوصا بعد ملاحظة المحكي عن كشف اللثام من ترادف التصوير و المثال عند أهل اللغة (3)، فالخروج عن مقتضى الاصل و اطلاق الآيات و الروايات في الاكتساب و المشي في طلب الرزق على أي وجه اتفق مشكل، فمن هنا ينبغي حملها على الكراهة، خصوصا بعد أن اشتملت بعض النصوص على نفي البأس اذا غيرّت رءوسها و في آخر قطّعت و في ثالث كسرت كما ستسمع بعضها ان شاء الله تعالى، و هي مشعرة بالتجسيم كما هو واضح.

و أما الاخبار الأُخر فان قلنا بان الصورة ظاهرة في المجسمة كما هو ظاهر الأكثر فلا إشكال و الا (4) في ظاهره لا من حيث أن النفح لا يكون الا في النقش، بل لأن ظاهر الاخبار المذكورة أن الصورة تامة و انها لا تنقص سوى الروح فيكلف بها المصور يوم القيامة. فظهورها في المجسم مما لا اشكال فيه، بل مقابلة النقش للصورة


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/ 90.
3- الفاضل الهندي، كشف اللثام، 1/ 199.
4- توجد عبارة ساقطة هنا.

ص: 104

في خبر المناهي صريحة في ذلك. و أما الحكمة المذكورة فهي حكمة لا يدور مدارها الحكم وجودا و عدما، فالقول بالجواز في الصورة المذكورة هو الاقوى فتبصّرْ.

و أما الصورة الثالثة و الرابعة: و هي الصورة المجسمة لغير الحيوان فالظاهر عدم تحريم عملها وفاقاً لجماعة من اصحابنا (رحمه الله) استناداً الى أصالة الاباحة، و ما دل على الرخصة من قبيل خبر محمد بن مسلم (1) المار و رواية التحف المتقدمة (2) و ما ورد في تفسير قوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ) (3) حيث قال (عليه السلام): (و الله ما هي بتماثيل الرجال و النساء و لكنها الشجر و شبهه) (4) و عن القاضي (5) و التقي اطلاق المنع و النهي عن تزويق البيوت الذي فسره بالتصاوير و التماثيل، و اطلاق قول النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام): (لا تدع صورة الا محوتها، و لا كلبا الا قتلته) (6)، و الاخبار المتكثرة الدالة على عدم نزول الملائكة بيتاً يكون فيه تماثيل، و الجميع كما ترى قاصر عن المعارضة لما مر مع ان الخبرين الاولين ضعيفي السند و الخبر الثالث محمول على الكراهة مع انه يمكن تنزيله على التماثيل لذي الروح مجسمة أو غير مجسمة.

و أما الصورة الرابعة الاخرى: فان أرجعنا تصوير الصورة الى تصوير المصور فتحرم الاولى منها لعين ما مر؛ لأنها تكون صورة مجسمة لحيوان مجسم، و هي محرمة دون الصور الباقية، و ان لم نرجع تصوير الصورة الى تصوير المصور فالكل غير محرمة اقتصاراً على القدر المتيقن فيما خالف الاصل.

و أما الصور الثمان الوهمية فالظاهر أنها غير محرمة، و يمكن القول بتحريم الاولى منها، و اذا رجع تصوير الصورة الى تصوير المصور يكون المحرم منها اثنان، الاولى


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.
2- ابن شعبة، تحف العقول، 249.
3- سبأ/ 13.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.
5- القاضي ابن البراج، المهذب، 1/ 344.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة 3/ 562.

ص: 105

و الخامسة، فيكون المحرم اثنان و اربعة من الصور الست عشرة التي ذكرنا فتبصّرْ، فروع:

أحدها: لو عممنا المنع لتصوير غير الحيوان مجسماً أو غير مجسم كما عن التقي و القاضي، فالظاهر أن المراد بما يحرم تصويره من غير الحيوان ما كان مخلوقا لله تعالى على هيئة حسنة معجبة للناظر على وجه تميل النفس الى مشاهدتها، أما الى مشاهدة صورتها المجردة عن المادة أو الى مشاهدة صورتها مع المادة، و أما تصوير المصنوعات للعباد و إن كانت على هيئة حسنة تميل النفس الى مشاهدتها كالابنية و السفن و السلاح و غيرها فلا يكون محرماً؛ للشك في شمول الأدلة، فيبقى على حكم الاصل؛ و لإطلاق الامر بالاكتساب و المشي في طلب الرزق على أي وجه اتفق، و لأن الحكمة في التحريم هي التشبيه في الخالق في إبداع المخلوقات و اختراعها و هي غير حاصلة هنا، بل ربما يقال بعدم شمول الدليل لتصوير كل المخلوقات و إن كانت على هيئة حسنة تميل النفس الى مشاهدتها كالأراضي و الانهار و الاودية و الجبال و نحوها. نعم في مثل الورد و الاشجار و نحوها يقال بالتحريم على تقدير التعميم. كل ذلك للشك في شمول الادلة لمثل ذلك.

ثانيها: ان خصصنا المنع في تصوير الحيوان صورة مجسمة أو مطلقة او عممنا المنع لتصوير غيره مجسماً أو مطلقا فالظاهر ان الممنوع منه التصوير المقصود منه الحكاية و التمثيل، فلو لم يكن ذلك مقصوداً للمصور، بل دعت الحاجة الى نقش صورة حيوان أو غيره، فالظاهر أنه لا بأس بذلك، للاقتصار على القدر المتيقن مما خالف الأصل، و لا أقل من الشك في شمول الدليل لذلك، فيبقى على مقتضى الأصل، بل ربما يكون ذلك ظاهر النصوص، لان التمثيل و التصوير ظاهر في قصد الحكاية كما لا يخفى على من مارس العرف.

ثالثها: المدار في الصورة على الصدق العرفي، فنقص بعض الأجزاء التي لا تنافي الصدق العرفي لا تقدح في التحريم. نعم لو كان الناقص جزءاً يمنع من صدق الاسم عرفاً فلا بأس.

ص: 106

فان قلت: انه ورد في بعض الأخبار الأمر بالتغيير، و في البعض الأمر بقطع رءوسها، و في البعض الأمر بكسر رءوسها. و ذلك أعم من أن يصدق عليها الاسم أو لا عرفاً، قلت:

أولًا: أن ذلك التغيير و الكسر المأمور به مما يمنع من صدق الاسم عرفاً، فلا يقاس عليه غيره.

و ثانياً: ان ذلك انما هو بعد عملها، و دعوى أنه يلزم تغييرها بعد عملها تغييراً يمنع من صدق الاسم أول الكلام كما ستعرف ذلك مفصلًا ان شاء الله تعالى، و كلامنا انما هو في العمل، أو عمل ما صدق عليه اسم الصورة محرم، فنقْص الجزء الذي لا يخل في الصدق العرفي لا يقدح في التحريم.

رابعها: لا يلحق تصوير أجزاء الحيوان بتصويره في التحريم و أن صدق عليه اسم الجزء المصور و يمكن القول بالتحريم نظراً الى شمول بعض الأدلة لذلك و لكنه بعيد و الاحتياط غير خفي على أهله.

خامسها: لو حصل الصنع من اثنين، فاما ان يكون على سبيل الدفعة أو التدريج، فان كان على سبيل الدفعة، فان كان كل منهما قاصداً للتصوير تعلق حكم التحريم بهما معاً، و ان كان كل واحد منهما قاصداً صنعة النصف لا غير فلا تحريم عليهما معاً، و أن كان على سبيل التدريج، فأما أن يكون التصوير مقصوداً لهما من أول وهلة أو لا، فان كان مقصوداً لهما كذلك تعلق التحريم بهما معاً، و ان لم يكن مقصوداً لهما من أول وهلة تعلق التحريم بالأخير، و مع التفريق يتعلق التحريم بالجامع أن لم يكن التصوير مقصوداً لهم و الا فيتعلق بالجميع.

سادسها: لو خصصنا التحريم بتصوير الحيوان فكانت الصورة مشتركة بين الحيوان و غيره كان المدار على قصد الصانع ان لم يكن لها ظهور في أحدهما، فان كانت ظاهرة في أحدهما فان قصد بها الحكاية حرم عملها و الا فلا.

سابعها: لو أشتغل بالتصوير فَعَل حراماً من حيث التجري، و الأقدام على فعل المحرم لا باس به، و لكن من حيث التصوير ممنوع، لأن التصوير عبارة عن اتمام الصورة، فانما يتعلق به التحريم عند اتمامها، فيكون تعلق التحريم بالتشاغل

ص: 107

بالأجزاء مراعى بالإتيان بالجزء الذي يتم به الصورة، فان أتى به تعلق به التحريم، من حيث التصوير و الا فلا. قلت: لا شك ان معنى حرمة الفعل عرفاً حرمة التشاغل به عمداً، فلو تشاغل فعل حراماً من حيث التصوير، و لا تكون الحرمة من حيث تلك الحيثية مراعاة بالاتمام، و الفرق بين الواجب المتوقف استحقاق الثواب على إتمامه و بين المحرم الذي لا يتوقف استحقاق العقاب على إتمامه حكم أهل العرف فتبصّر.

ثامنها: تختلف هيئة المنقوش، فنقْش هيئة الانسان قائماً تستدعي نقشه تام الأجزاء فلا يصدق عليه أنه صورة حتى يكون المنقوش تمام الأعضاء، بخلاف المنقوش جالساً فانه و ان كان المنقوش خصوص نصفه الأعلى، لكن حيث كان المنقوش على هيئة الجالس يصدق عليه في العرف انها صورة فينبغي التأمل في ذلك. فان صدق عليه في العرف انها صورة فلا كلام، و الا فان كان قصده الاتمام فعل حراماً و ان كان قصده نقش النصف لا غير فلا حرمة و الله العالم.

و كيف كان فظاهر النص و الفتوى جواز اقتناء الصورة و التماثيل، لحيوان كانت أو لغيره، مجسمة كانت أو لا ان عممنا تحريم عملها كاستعمالها و النظر اليها و الانتفاع بها و بيعها، قال في مجمع البرهان في باب لباس المصلي: (المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة بقاء الصورة) (1)، و قال في مفتاح الكرامة بعد نقل العبارة المذكورة (و الأمر كما قال كما بينا الحال في باب لباس المصلي و مكانه) (2) قال في جواهر الكلام: (هذا كله في عمل الصور، أما بيعها و اقتناؤها و استعمالها و الانتفاع


1- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 2/ 93، باختلاف في الألفاظ.
2- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 49.

ص: 108

بها و النظر اليها و نحو ذلك فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه) (1)، و قال في مفتاح الكرامة بعد العبارة السابقة بقليل (فقد تحصل أنه يجوز اقتناء ذي الصورة و بيعه و الانتفاع به على كراهية، اذ ليس هو مما صنع للحرام حتى يلزم إتلافه بل هو من الصنع الحرام فليلحظ ذلك و ليتأمل فيه) (2).

أقول: و يدل على ذلك- بعد أصالة الجواز و عمومات خلو الانتفاع و إطلاق الأمر بالاكتساب و المشي في طلب الرزق على أي وجه اتفق- ظاهر الإجماع حتى أنه قال في الجواهر: (انا لم نجد من أفتى بذلك عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الابقاء، و يمكن دعوى الإجماع على خلافه) (3)، أقول على أنك قد سمعت اطلاق كلام الأردبيلي في باب لباس المصلي. نعم نقل عنه التفصيل في هذا الباب و انه أستظهر حرمة بقاء الصورة الظلية كأحداثها (4)، و يمكن الاستدلال على ذلك ببعض الأخبار مثل صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ربما قمت أصلي و بين يدي الوسادة فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوباً، فلا بأس) (5)، و رواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): (عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل طير أو سبع، أ يصلي فيه؟ قال: لا بأس) (6)، و عنه ايضاً عن أخيه: (عن البيت فيه صورة سمكة أو طير يعبث به أهل البيت، هل يصلي فيه؟ قال: لا حتى يقطع رأسه و يفسد) (7)، و رواية أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل، قال: لا بأس به يكون في البيت،


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 44.
2- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 49.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 44.
4- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 8/ 56- 57.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3/ 461، و هو قول الإمام- (عليه السلام) و في الوسائل لا توجد (فلا بأس).
6- المصدر نفسه، 3/ 463.
7- المصدر نفسه، 3/ 464، باختلاف قليل في الألفاظ.

ص: 109

قلت: التماثيل، قال: كل شي ء يوطأ فلا بأس به) (1)، و خبر أبي بصير الآخر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أنا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفرشها، قال لا بأس منها بما يبسط و يفرش، و انما يكره ما نصب على الحائط و على السرائر) (2)، و خبر علي بن جعفر الآخر المروي في قرب الأسناد عن أخيه (عليه السلام): (سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر و لم يعلم بها و هو يصلي في ذلك البيت ثمّ علم، ما عليه؟ قال (عليه السلام) ليس عليه فيما لم يعلم شي ء فاذا علم فلينزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل) (3)، الى غير ذلك من الأخبار.

فإن قلت: ان أكثر الأخبار المذكورة واردة في التماثيل التي تكون على الوسائد و البساط و بعضها في النقش على الخاتم و هذا خارج عن محل البحث لأن محل البحث انما هو في جواز إبقاء ما يحرم عمله و هو خصوص الصورة المجسمة، فهذه الأخبار خارجة عن محل البحث. قلت: اما على القول بتعميم التحريم لغير المجسمة فالاستدلال لها واضح، و أما على القول بتخصيصه في المجسم ففي الأخبار ما يدل على جواز إبقائها كرواية علي ابن جعفر الثانية فان فيها (عن البيت فيه صورة سمكة أو طير يعبث به أهل البيت، هل يصلي فيه؟ قال: لا حتى يقطع رأسه و يفسد)، و لا يخفى على المتأمل أن الخبر المذكور في مقامات يدل على أن الصورة مجسمة:

أحدها: قوله (عن البيت فيه) فان (فيه) تشعر باستقلال الصورة، و قوله (يعبث به أهل البيت) يشعر بذلك أيضاً، و قوله (حتى يقطع رأسه و يفسد) يدل على ذلك أيضاً و رواية أبي بصير فإن قوله فيها: (و انما يكره ما نصب على الحائط و على السرائر)، ظاهر في المجسمة، كما أن رواية علي بن جعفر الثالثة ظاهرة في ذلك حيث قال فيها (فلينتزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل).

فان قلت: ان هذا الخبر حيث أمر بكسر رءوس التماثيل أفاد وجوب إتلافها و عدم جواز بقائها. قلت: الظاهر من الخبر أن الأمر بالكسر انما هو من حيث كون البيت يصلى فيه و الصلاة في بيت فيه تماثيل مكروهة، فالأمر بالكسر لأجل دفع


1- المصدر نفسه، 3/ 564.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 220.
3- الحميري، قرب الإسناد، 113.

ص: 110

الكراهة نظير خبر علي بن جعفر المتقدم فإنه قال فيه (حتى يقطع رأسه) و ظاهره كراهة الصلاة حتى يكسر رأسه فتبصّر.

بل كل ما دل على كراهة الصلاة في بيت فيه تماثيل حتى تغير يدل على جواز إبقائها و الا كانت الصلاة محرمة فانه لو كان كسرها و إتلافها واجباً و الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده الخاص، فتكون الصلاة محرمة الا اذا قلت: ان الصلاة في البيت الذي فيه تماثيل مجسمة مكروه لأنه لا يحرم عملها و لا يجب إتلافها، و أما اذا كانت التماثيل مجسمة فإنها كما يحرم عملها يجب إتلافها فتكون الصلاة في البيت الذي فيه تلك الصورة محرمة، و هو خلاف ما يقتضيه إطلاقهم كراهة الصلاة في البيت الذي فيه تماثيل حتى تغير فتبصّر.

نعم يحكى عن المقدس الأردبيلي في هذا الباب حرمة إبقاء الصورة الظلية كأحداثها، و استظهر بعض المعاصرين من بعض عبائر القدماء حرمة بيعها و ابتياعها، قال (ففي المقنعة- بعد أن ذكر مما يحرم الاكتساب به الخمر و صناعتها و بيعها- قال:

و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسمة و الشطرنج و ما أشبه ذلك (حرامٌ) و بيعه و ابتياعه حرام) (1) انتهى. و في النهاية و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتى لعب الصبيان بالجوز فالتجارة


1- الشيخ المفيد، المقنعة، 587.

ص: 111

فيها و التصرف فيها و التكسب بها محظور محرم قال: (و نحوها ظاهر السرائر) (1)

انتهى. أقول: استفادة تحريم بيعها من العبائر المذكورة محل تأمل و نظر. و كيف كان فيمكن الاستدلال على تحريم الابقاء بأمور:

أحدها: ان الظاهر من تحريم عمل الشي ء مبغوضية وجود المعمول ابتداءً و استدامةً. و فيه أنه لا ملازمة بين مبغوضية الايجاد و مبغوضية الوجود، و دعوى الظهور في ذلك ممنوعة. نعم لو فهم ذلك من الدليل فلا نتحاشى منه، كما يفهم من عدم جواز ادخال النجاسة الى المسجد ارادة الشارع عدم وجودها في المسجد. نعم يمكن دعوى الملازمة في العكس، فان كل مبغوض الوجود مبغوض الايجاد و لا عكس.

ثانيها: صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة، فإنه بعد أن سأله عن تماثيل الشجر قال (عليه السلام): (لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان) (2)، و وجه الاستدلال بها بأن الظاهر من سؤال الراوي انما هو سؤاله عن الفعل المتعارف المتعلق بها و هو الاقتناء لأنه هو الفعل المتعارف و لانه هو الذي تعم به البلوى، و هو المسئول عنه غالباً دون العمل فإنه مختص بالنقّاش، فالسؤال عنه خلاف الظاهر. أ لا ترى أن السؤال عن الخمر سؤال عن شربها لا عن عملها، بل يمكن ذلك في الخمر لعدم اختصاص عملها ببعض الناس دون بعض، بخلاف عمل الصور فإنه خاص بالنقّاش، فضرْبُ السؤال عن الصور إلى السؤال عن عملها بعيدٌ، فاذا كان السؤال عن الاقتناء كانت الرواية دالة على عدم اقتناء صورة الحيوان و هو المطلوب.

و فيه أن دعوى السؤال عن عملها ممنوعة لأن عملها من الأمور المركوزة في الأذهان بل السؤال عنه مقدم على السؤال عن الاقتناء لبعد احتمال حرمة اقتناء ما يحل عمله، فانما سأل عن الاقتناء بعد معرفة حرمة العمل.


1- الشيخ الطوسي، النهاية، 363، و النص كله للشيخ الأنصاري في المكاسب، 1/ 190- 191، و قال: للشيخ مهدي (قُدّسَ سرُّه).
2- أحمد البرقي، المحاسن، 2/ 619.

ص: 112

مسألة التكسب بالغناء
اشارة

من جملة ما يحرم التكسب به لحرمته ذاتاً الغناء، و الكلام أما في موضوعه أو في حكمه أو مستثنياته، فينتظم البحث فيه في مقامات ثلاثة:

المقام الأول: في موضوعه
اشارة

قال في محكي القاموس (الغناء ككساء من الصوت ما طُرّب به) (1)، و عن النهاية (كل من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرب غناء) (2)، و نقل في محكي النهاية عن الشافعي (انه تحسين الصوت و ترقيقه) (3)، و عن بعض كتب اللغة أنه (ترجيع الصوت و مده)، و عن آخر (أنه مد الصوت)، و عن آخر (انه رفع الصوت)، و عن المصباح المنير أنه (الصوت) (4)، الى غير ذلك من كلمات أهل اللغة المختلفة في تفسيره غاية الاختلاف و ليس الاختلاف في كلامهم مبنياً على التعارض حتى ينظر في التعادل و يرجح الأكثر أو الأبصر او على الجمع فيؤخذ بالجامع للصفات لأنه المتيقن و الأصل جواز ما عداه، أو بالجميع عملا بقول المثبت فيما أثبته و رداً للنافي فيما نفاه، بل أنما قصدهم كما لا يخفى على من مارس كلامهم في بيانهم لمعاني الألفاظ الشائعة المشهورة الدوران حول العرف و الإشارة اليه و بيان المعنى العام ليحترز عن إدخاله في جنس آخر كبيان أن الغناء من مقولة الأصوات و كيفياتها، كما أن غرضهم في قولهم: (سعدانة نبت) بيان انها من مقولة النبات و انها من هذا الجنس لا من غيره، و لهذا ترى من عد للغناء معنيين: لغوي و عرفي قبل الشهيد (رحمه الله) و لا ترى بينهم معركة و نزاعاً مع اختلاف العبارات و تفاوت الكلمات بل و لا من نسب اليهم الخلاف في مفهومه مع كثرة ما اختلفوا فيه من القيود.

و السر في اختلاف كلماتهم هو أنه اذا تطابق العرف و اللغة في لفظ قالوا أنه معروف أو أشاروا اليه إشارة كقولهم (مد الصوت، رفع الصوت) و ذلك من


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 4/ 372.
2- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 3/ 391.
3- المصدر نفسه، 3/ 391، و ما ورد فيه (تحسين القراءة و ترقيقها).
4- الفيومي، المصباح المنير، 2/ 48.

ص: 113

أعظم الشواهد على أنهم يريدون المعنى العرفي، و الا فكيف يصح لصاحب المصباح المنير أن يقتصر في تعريفه على أنه (الصوت) و لصاحب الصحاح أن يقتصر في تعريفه على أنه (من السماع) (1)، و لابن الأثير أن يقول (كل من رفع) الى آخره، اذ من خفض صوتاً و والى كذلك.

فإن قلت: أن دأب اللغويين تمييز الصورة عما عداها فيكتفون بالتعاريف اللفظية كقولهم: (سعدانة نبت) فتعريفهم الغناء بذلك لا يدل على ارادة المعنى العرفي. قلت:

التعريف بالصوت و السماع خالٍ عن التمييز فلا مناص عن توجيه كلامهم بما ذكرناه، و مما يرشد الى ذلك و يشير اليه ما حكاه في مفتاح الكرامة عن الصحاح (أنه أحاله على العرف) (2) قال (و لم يتعرض لمعنى آخر فيه الصغاني في كتابه الذي جعله تكملة للصحاح و منه أخذ صاحب القاموس ما زاده على الصحاح، و ايضاً لو كان هناك مخالفة لأشار اليها صاحب القاموس و غيره) (3)، و في مجمع البحرين (و الغناء ككساء، الصوت المشتمل على الترجيع المطرب أو ما يسمى بالعرف غناءً و ان لم يطرب) (4)، و هو لا يقتضي عدم تطابق اللغة و العرف حيث ذكر له معنى آخر غير المعنى العرفي لأنه تبع في ذلك بعض الفقهاء، و هو وهم كما قيل و ستعرف ذلك مفصلًا أن شاء الله تعالى فتلخص مما ذكرنا أن كلام اللغويين يحوم حول العرف.

هذا الاختلاف الذي وقع في كلامهم أنما هو للإشارة الا المعنى العام و هو أنه من مقولة الصوت أو كيفياته و ليس غرضهم من ذلك التعريف التام كما لا يخفى على كل من مارس كلامهم.


1- الجوهري، الصحاح، 6/ 2449.
2- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 51.
3- المصدر نفسه، 4/ 51.
4- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 335.

ص: 114

تعريف الغناء عند الفقهاء

هذا كله في كلام اللغويين، و أما الفقهاء فاختلفت كلماتهم في بيان هذا الموضوع كاختلاف كلمات اللغويين، فعن الشرائع في باب الشهادات (1) و التحرير (2)

و الإرشاد (3) و تعليقه و ش في شهاداته و جامع المقاصد (4) أنه (مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب) و عن المفاتيح أنه المشهور و عن السرائر (5) و ايضاح النافع أنه (الصوت المطرب)، و عن العلامة في شهادات القواعد أنه (ترجيع الصوت و مده) (6) و ذلك مما ينادي بأعلى صوت أنهم يحومون حول المعنى العرفي. و قيل أنه هو المعنى المشهور و أن العرف لا يحكم بسواه و انه هو الذي اتفق عليه كلمات اللغويين و كلمات الفقهاء.

هكذا قال بعض أصحابنا المتأخرين، قال: (ان التطريب في الصوت مده و تحسينه) (7)، كما في الصحاح (8) و غيره، و في القاموس (التطريب: الأطراب كالتطرب و التغني) (9)، و في المصباح المنير: (طرب في صوته: رجعة و مده) (10)، فقد تحصل ان المراد هنا بالإطراب و التطريب غير الطرب بمعنى الخفة لشدة حزن أو سرور كما توهمه صاحب مجمع البحرين و غيره من أصحابنا كما ستعرفه، فكأنه قال


1- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، 4/ 913.
2- العلامة الحلي، تحرير الأحكام، 2/ 209.
3- العلامة الحلي، إرشاد الأذهان، 2/ 156.
4- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 23.
5- ابن إدريس الحلي، السرائر، 2/ 120، و العبارة فيه هي (الغناء من الصوت ممدود، كذا).
6- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 3/ 495.
7- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 294.
8- الجوهري، الصحاح، 1/ 172.
9- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 1/ 97.
10- الفيومي، المصباح المنير، 2/ 8.

ص: 115

في القاموس: (الغناء (ككساء) من الصوت) (1)، ما مد و حسن و رجع، فانطبق على المشهور أن الترجيع تقارب حركات الصوت و النفس فكان الترجيع لازماً للإطراب و التطريب، ثمّ قال: فمن ذكر المد و الترجيع و التطريب فلا حاجة به الا تضمين و لا تحميل، كما أن من ذكر التطريب و الأطراب كذلك، لأنه لا يكون بدون مد و ترجيع، و أن من ذكر المد و الترجيع فقد حمل أحدهما و ضمنه معنى التحسين و التطريب و الترقيق و أبقى الآخر على معناه الأصلي، كما أن من أقتصر على أحدهما حمله و ضمنه ذلك. و بذلك ينطبق على المشهور ما نقله في النهاية عن الشافعي من أنه (تحسين الصوت و ترقيقه) بالتقريب المشار اليه، و كذلك قوله: (كل من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرب غناء)، لأن المراد بالموالاة الترجيع، و بذلك ينزل على المشهور. و أيضاً ما في شهادات الكتاب و بعض كتب اللغة من أنه (ترجيع الصوت و مده)، و ما في السرائر و ايضاح النافع من أنه الصوت المطرب لأنه كما في القاموس و قول من قال أنه: (من الصوت) و قول من قال: (من رفع صوتاً) فهو غناء، و قوله في المصباح المنير (أنه الصوت) الى آخر ما ذكر، ثمّ أيد- بكون العرف لا يحكم بسوى المعنى المشهور- بأن جمعا من أصحابنا اقتصروا عليه في بيان موضوع الغناء مع انه من الألفاظ التي نهي عنها في الشريعة، و تحمل على المعنى العرفي- ان وجد- سواء كان لها معنى لغوي أو لا.

فإن كان ما ذكره المشهور هو المعنى العرفي فقد ثبت المطلوب، و ان كان المعنى العرفي غيره لزم عليهم بيانه، فعدم بيانه مع بيان المعنى المشهور بيان لعدمه لأن الألفاظ اذا لم تثبت لها حقائق شرعية تحمل على المعاني العرفية و ان خالفت المعنى اللغوي؛ لان العرف مقدم على اللغة في مقام التعارض، فيلزم الفقيه بيان المعنى المراد من اللفظ و هو المعنى العرفي، فبيان المعنى المذكور و عدم التعرض للمعنى العرفي بكل وجه مما يشعر بأنه هو المعنى العرفي.

و فيه أنه قد يكون اقتصار بعض الاصحاب على ذلك في بيان الموضوع المذكور من جهة كونه الفرد المتيقن؛ لأن موضوع الغناء لمّا كان مشتبها لغة و عرفا، و كان هذا هو الفرد المتيقن ذكروه؛ لأنه مورد التحريم و ما عداه يُتمسك فيه باصالة الاباحة فأرادوا بذلك بيان مورد التحريم أو أنه أظهر أفراد الغناء لغة و عرفا، فعرفوه بما


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 4/ 368، و ما بين المعقوفتين إضافة من القاموس.

ص: 116

يميّزه في الجملة و أحالوا غيره على العرف، كما أنّ في سابقه أن في جملة من كلام أهل اللغة أن الطرب (خفة تعتري الانسان لشدة حزن أو سرور) (1)، و متى كان هذا معنى الطرب كان التطريب ايجاد هذه الحالة و كذا الاطراب، و إلا لزِم الاشتراك اللفظي مع انهم لم يذكروا للطرب معنى آخر ليشتق منه لفظ التطريب و الاطراب، مضافا الى (أن) (2) ما ذكر في معنى التطريب إنما هو للفعل القائم بذي الصوت لا الاطراب القائم بالصوت، و هو المأخوذ في تعريف الغناء عند المشهور دون فعل الشخص، فيمكن أن يكون معنى تطريب الشخص في صوته ايجاد سبب الطرب بمعنى الخفة، و سببه هو تحسين الصوت و مده و ترجيعه، كما أن تحزين الشخص و تفريحه ايجاد سبب الحزن و الفرح، فتفسير التطريب و الاطراب بما ذكر لا ينافي تفسير الطرب بالخفة، على أن يكون التطريب التحسين، و الترجيع يستلزم كون الطرب الحسن و الرجوع، و هذا لا يقوله أحد، بخلاف ما لو جعلنا التطريب بمعنى ايجاد سبب الطرب بذلك المعنى، فإنه يكون بمعنى التخفيف بذلك السبب، فيناسب كون الاطراب الخفة.

هذا مع أنه لا يمكن إرادة المد و التحسين و الترجيع من الطرب المأخوذ في تعريف الاكثر للغناء، و هو مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فيتعيّن بما ذكرنا حمل الطرب المأخوذ في تعريف الاكثر على (الخفة التي تعتري الانسان لشدة حزن أو سرور)، كما هو المنقول عن الصحاح في تفسيره و عن اساس الزمخشري حيث يقول (خفة لهمٍّ أو سرور) (3)، و المراد بالطرب في تعريف المشهور ما كان مطربا في الجملة للمغني او المستمع أو ما كان من شأنه ذلك، و ليس المراد منه المطرب بالفعل خصوصاً بالنسبة الى كل أحد؛ إذ لو كان المراد منه ذلك اشكل الحال بخروج اكثر ما هو غناء عرفا عن ذلك. و لعله من هذه الحيثية ألحق الشهيدُ الثاني في الروضة ذلك


1- الجوهري، الصحاح، 1/ 171.
2- إضافة يقتضيها المقام.
3- الزمخشري، أساس البلاغة، 277.

ص: 117

بتعريف المشهور قوله: (او يسمى في العرف غناء) (1)، و تبعه في مجمع الفائدة (2) و مجمع البحرين (3) على ذلك لادخال ما لا يكون منه مطربا بالفعل.

و أنت خبير بأنّا إذا أردنا من الطرب الشأنية (4) فيكون معناه انه ما كان شأنه الاطراب و إن لم يكن مطربا بالفعل لوجود مانع، أغنانا ذلك عن الحاق ما ألحقوه لعدم انفكاك الغناء عرفا عن ذلك، كما أنه لعل الذي دعا هذا المتأخر الى حمل التطريب على التحسين و الترجيع و المد كما سمعت ذلك فيما مرّ هو خياله أن المراد من المطرب ما كان مطربا بالفعل فمن هنا فرّ الى ذلك، و قد عرفت ما فيه. و كيف كان فلا محيص عن الرجوع الى العرف الذي هو المرجع و المفزع في فهم المعاني من المباني و هو لا يكال بمكيال و لا يوزن بميزان، فقد تراه يرى تحقق الغناء في صوت خال عن الحسن و الرقة مشتمل على الخشونة و الغلظ، و في خال عن المد مشتمل على التقطيع و التكسير، و في خال عن الترجيع متصف بالخفاء، و في مهيّج للطرب بمعنى الخفة المقرونة بالانشراح و اللذة، و في مفرحٍ للفؤاد مهيج على البكاء للعشاق الى غير ذلك.

فليس للفقيه الماهر سوى الرجوع اليه و التعويل عليه، و لو فرض ثبوت معنى لغوي يغاير العرفي وجب الرجوع الى العرفي أيضاً.

المقام الثاني: في حكمه

و هو محرم لنفسه اجماعا محصلا و منقولا نقلا متواتراً، و الكتاب العزيز و السنة المتواترة شاهدان عليه، فالأدلة الثلاثة متفقة على تحريمه كما أن تعلمه و تعليمه بفعله لا بجنسه و فصله و استماعه مراعيا صفته أو لا، دون مجرد سماعه، و أخذُ الاجرة عليه محرمٌ كذلك، و في مفتاح الكرامة (و أما حكمه فلا خلاف- كما في مجمع


1- الشهيد الثاني، الروضة البهية، 3/ 212.
2- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 12/ 336.
3- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 335.
4- في الأصل (المنشئية).

ص: 118

البرهان (1)- في تحريمه و تحريم الاجرة عليه و تعلمه و تعليمه و استماعه سواء كان ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرهما) (2) بل ربما ادّعى بعض أصحابنا أنه من الضروريات و ان حكمه عند الامامية حكم الزنا.

أما دعوى الضرورة و الاجماع على تحريمه فقد عرفت، و أما الكتاب المجيد فآيات منها قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (3)، ففي خبر أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: هو الغناء) (4)، و منها قوله تعالى:

(وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ) (5)، ففي خبر ابن مسكان عن محمد عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال سمعته يقول: الغناء مما قال الله تعالى (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)) (6)، و في خبر مهران بن محمد عن ابي عبد الله (عليه السلام): قال: (سمعته يقول: الغناء مما قال الله تعالى (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)) (7)، و في خبر الوشاء قال: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الغناء، قال: هو قوله تعالى (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)) (8)، و منها قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ


1- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان، 8/ 58- 59.
2- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 52.
3- حج، 30.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 227.
5- لقمان، 6.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 226.
7- المصدر نفسه، 12/ 226.
8- المصدر نفسه، 12/ 227.

ص: 119

الزُّورَ) (1)، ففي خبر الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل (وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: (هو الغناء) (2)، و منها قوله تعالى: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً) (3)، ففي خبر الخزاز قال: (نزلنا بالمدينة فاتينا أبا عبد الله (عليه السلام) فقال لنا: اين نزلتم، قلنا: على فلان صاحب القيان، فقال: كونوا كراماً، فوالله ما علمنا ما أراد به فظننّا أنه يقول: تفضلوا عليه فعدنا اليه فقلنا: لا ندري ما أردت بقولك:

كونوا كراما، فقال: أما سمعتم الله تعالى يقول في كتابه العزيز (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً)) (4)، و القيان جمع قينة، و القينة الامة المغنية.

و أما السنة فمضافا الى ما سمعت منها في تفسير الكتاب ضروب، منها يدل على تحريم الغناء لخبر الشحام عن ابي عبد الله (عليه السلام): (قال: الغناء عشر النفاق) (5)، و خبره الآخر، قال ابو عبد الله (عليه السلام): (بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة و لا يجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك) (6)، و خبر الحسن بن هارون قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الغناء مجلس لا ينظر الله الى أهله) (7)، و خبر ابراهيم بن محمد المدني عمن ذكره عن ابي عبد الله (عليه السلام): (قال سئل عن الغناء و أنا حاضر فقال: لا تدخلوا بيوتا الله معرض عنها) (8)، و خبر ياسر عن أبي الحسن (عليه السلام)


1- الفرقان، 72.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 226.
3- الفرقان، 72.
4- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 432.
5- المصدر نفسه، 6/ 431.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 225.
7- المصدر نفسه، 12/ 228.
8- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 227.

ص: 120

قال: (من نزَّه نفسه عن الغناء فان في الجنة شجرة يأمر الله الرياح ان تحركها فيَسمع لها صوتاً لم يُسمع بمثله، و من لم يتنزّه عنه لم يسمعه) (1)، و خبر يونس قال: (سألت الخراساني (عليه السلام) و قلت: ان العباسي ذكر انك ترخّص في الغناء، فقال: كذب الزنديق، ما هكذا قلت له، يسألني عن الغناء فقلت له: إن رجلا أتى أبا جعفر (عليه السلام) فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان إذا ميز الله بين الحق و الباطل فاين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال: قد حكمت) (2)، و عن الفقيه (سأل رجل علي بن الحسين (عليه السلام) عن شراء الجارية لها صوت، فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فاما الغناء فمحظور) (3)، و خبر محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام): (قال: سمعته يقول: الغناء مما أوعد الله عليه النار، و تلا (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية) (4)، و عن المقنع قال:

قال الصادق (عليه السلام): (شر الاصوات الغناء) (5)، و خبر الحسين بن هارون قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الغناء يورث النفاق و يعقب الفقر) (6)، و خبر عبد الله بن أبي بكر عن محمد عمرو بن حزم قال: (دخلت على ابي عبد الله (عليه السلام) فقال: الغناء، اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء، اجتنبوا، فضاق بي المجلس، و علمت انه يعنيني) (7).


1- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 434.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 227.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 86.
4- المصدر نفسه، 12/ 226.
5- الشيخ الصدوق، المقنع، 456.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 1/ 229، في الوسائل (الحسن).
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 230، و ما في الأصل (عبد الله بن أبي بكير محمد بن عمر بن محرم).

ص: 121

و ضرب منها دل على حرمة شراء الجارية المغنية، كخبر سعيد بن محمد الطاطري عن أبيه عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات، فقال: شراؤهن و بيعهن حرام و تعليمهن كفر و استماعهن نفاق) (1)، و خبر ابراهيم بن ابي البلاد قال: (اوصى اسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنيات أن يُبَعنَ و يحمل ثمنهن الى ابي الحسن (عليه السلام) فقال ابراهيم: فبعت الجواري بثلاث مائة الف درهم، و حملت ثمنهن اليه، فقلت له: إنّ مولى لك يقال له اسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار مغنيات و حمل الثمن اليك و قد فعلت و بعتهن، و هذا الثمن ثلاث مائة الف درهم، فقال: لا حاجة لي فيه، ان هذا سحت و تعليمهن كفر، و الاستماع منهن نفاق و ثمنهنّ سحت) (2)، و خبر الوشاء قال: (سئل ابو الحسن (عليه السلام) عن شراء المغنية، فقال: قد يكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها الا ثمن الكلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النار) (3).

و ضرب منها دل على حرمة كسبها، كخبر نضر بن قابوس قال: (سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: المغنية ملعونة، ملعون من أكل كسبها) (4)، و روي في الفقيه ان اجر المغنية سحت.

و ضرب منها دل على حرمة استماعه كخبر عنبسة عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: (استماع الغناء و اللهو ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع) (5)، الى غير ذلك من الاخبار نقلنا منها بعضا، و من أراد استقصاءها فليرجع الى كتب الأخبار، قال في مفتاح الكرامة: ان الاخبار الدالة على تحريم الغناء مطلقا من غير تغيير خمسة و عشرين خبرا و هي بين صريحة الدلالة على ذلك و بين ظاهرة فيها، و ثلاثة اخبار دالة على تحريم استماع الغناء، و خمسة أخبار دالة على تحريم ثمن المغنية (6).


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 88.
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الاحكام، 6/ 357.
3- الوسائل، 12/ 88.
4- الوسائل، 12/ 85.
5- الشيخ الكليني، الكافي، 6/ 434.
6- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 52، و النقل هنا بالمعنى.

ص: 122

و الحاصل بعد التأمل في ما ذكرناه من الأدلة يحصل للفقيه القطع بتحريم الغناء من غير فرق بين ان يقترن بمحرم خارجي أو لا، و الظاهر انه لم يزل المذهب كذلك حتى قام الكاشاني (1) و الخراساني ففصلوا ما اقترن بمحرم خارجي و بين غيره، و حكموا بتحريم الأول دون الثاني و الظاهر أنهما تبعا في ذلك من جعل الله الرشد في خلافه و هو الغزالي، قال في الوافي (و الذي يظهر من مجموع الاخبار الواردة فيه اختصاص حرمة الغناء و ما يتعلق به من الاجر و التعليم و الاستماع و البيع و الشراء كلها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني أمية و بني العباس من دخول الرجال عليهن و تكلمهن بالاباطيل و لعبهن بالملاهي من العيدان و القضيب و غيرها دون ما سوى ذلك كما يشعر به قوله (عليه السلام): (ليست بالتي تدخل عليها الرجال) (2)، ثمّ قال بعد ذلك بيسير (و على هذا فلا بأس بسماع التغني بالاشعار المتضمنة ذكر الجنة و النار و التشويق الى دار القرار و وصف نِعَم الله الملك الجبار و ذكر العبادات و الترغيب في الخيرات و الزهد في الفانيات و نحو ذلك) (3).

و فيه أنهم اما ان يريدوا عدم كون المجرد عن هذه المحرمات الخارجية غناء، و هو مردود باتفاق كلام أهل اللغة و فقهائنا على ان الغناء من مقولة الصوت و من كيفيته و لا ربط له بأمر خارجي، بل الرجوع الى العرف يكذب هذه الدعوى كما لا يخفى على من مارسه، و أما ان يريدوا انه و ان كان غناءً و لكن المحرم من الغناء هو ما


1- المحدث الكاشاني، الوافي، 10/ 35، باب كسب المغنية و شرائها.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 85.
3- المحدث الكاشاني، الوافي، 10/ 35، باب كسب المغنية و شرائها.

ص: 123

اقترن بمحرم خارجي لعدم الدليل على تحريم ما عداه، فيرجع فيه الى أصل الاباحة، لان الاخبار المتقدمة انما دلت على تحريم القول الزور و اللغو و لهو الحديث و أما ما لم يكن كذلك من الغناء فلا دليل على حرمته، و هو مردود بالاجماعات المتقدمة المنقولة بل الاجماع المحصل فضلا عن المنقول الدالة على تحريم مطلق الغناء من غير فرق بين المقترن بالمحرم و غيره، و مع قطع النظر عن الاجماعات، فاطلاق الاخبار المتقدمة كاف في ذلك، على أن ما دل على تحريم القول الزور و لهو الحديث شامل لذلك لأنه من ذلك و لو باعتبار الكيفية كما لا يخفى على المتأمل.

و الاستناد في ذلك- الى بعض الاخبار الخاصة كخبر علي بن جعفر المروي عن قرب الاسناد عن اخيه (عليه السلام): (سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الاضحى؟ قال: لا بأس به ما لم يعصى به) (1)- مما لا وجه له إذ هو مع قصوره عن معارضة ما سمعت من الاخبار المجبورة بما سمعت من الاجماعات مضطرب لأن علي بن جعفر رواه في المحكي من كتابه بابدال (ما لم يعص به) (ما لم يزمر به) أي يصفه بالزمارة أو يجعل صوته كالزمار و في بعض النسخ (ما لم يؤمر به) فحينئذ لا بد من حمله أما على التقية أو على إرادة خصوص العرس في اليومين أو على إرادة التغني بالشعر على وجه لا يصل إلى حد الغناء فيكون ذلك هو المراد من قوله (ما لم يُعص به) و إن أبيت من الحمل فلا بد من اطّراحه لقوة المعارض.

و مثل ذلك الاستناد الى بعض الروايات الدالة على حسن صوت داود (عليه السلام) (2)، و صوت زين العابدين (عليه السلام)، حتى قيل ان صوت داود (عليه السلام) يسقط له الطير، و صوت زين العابدين (عليه السلام) يسقط له بعض المارين (3)، فيكون ذلك حجة على جواز الغناء المجرد عن المحرمات الخارجية ضرورة حصول الفرق بين الحس الذي هو من عطاء الرحمن و التحسين الناشئ من الترجيع الناشئ من دعوة الشيطان، و ما أحسن تشبيه ذلك بامرأة ذات جمال و أخرى متحلية لتميل قلوب الرجال و استندوا الى بعض الاخبار كخبر ابي بصير قال: (سألت أبا جعفر (4) (عليه السلام) عن كسب المغنيات فقال: التي تدخل عليها الرجال حرام) (5)،


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 85.
2- الشيخ الصدوق، الخصال، 583.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 615.
4- في الوسائل (أبا عبد الله).
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 84.

ص: 124

و خبره الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي تدخل عليها الرجال) (1)، و خبر يونس؛ لان فيه (إذا ميز الله بين الحق و الباطل، أين يكون الغناء؟) (2)، و الخبر الآخر الذي تضمن لقوله (ما كان عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة) (3)، و غيرها من الاخبار التي يستشم منها أن تحريم الغناء من حيث اقترانه بمحرم خارجي، و هي على تقدير صحة سندها و صراحتها ليست لها قابلية معارضة بعض ما مر من الادلة فلا بد من اطراحها.

فمن الغريب ما وقع للفاضلين المذكورين (4) من الفتوى بذلك بل أعرب من ذلك متابعة بعض من تأخر عنهما لهما في ذلك، خصوصا بعد ان لم يكن لهما موافق ممن تقدمهما من الاصحاب، و أما دعوى أن الشيخ في الاستبصار ممن يفتي بذلك و أنه موافق لهما في ذلك فهو تقوُّلٌ على الشيخ (رحمه الله) لانه قال في الاستبصار بعد نقل الاخبار الدالة على نفي البأس عن كسب المغنيات في الاعراس ما لفظه (الوجه في هذه الاخبار الرخصة في من لا يتكلم بالاباطيل و لا يلعب بالملاهي و العيدان و أشباهها و لا بالقصب و غيره، بل يكون ممن يزف العروس و يتكلم عندها بإنشاد الشعر و القول البعيد عن الفحش و الاباطيل، و أما ما عدا هؤلاء ممن يتغنين بسائر انواع الملاهي فلا يجوز على حال سواء كان في الاعراس أو غيرها) (5)، و هو صريح في حرمة التغني


1- المصدر نفسه، 12/ 85.
2- المصدر نفسه، 12/ 227.
3- المصدر نفسه، 86 12.
4- الكاشاني و الخراساني.
5- الشيخ الطوسي، الاستبصار، 3/ 62، القسم الأول.

ص: 125

بسائر أنواع الملاهي في الاعراس و غيرها و في جواز التغني بالشعر و القول البعيد عن الفحش في الاعراس و لا دلالة فيه على جواز التغني بذلك في غير الاعراس فما زعمه في الوافي (1) من أنه موافق لهما في الفتوى تقوّل عليه فتبصّرْ.

المقام الثالث: في المستثنيات
اشارة

و فيه مباحث:

أحدها: في القرآن،

يظهر من بعض أصحابنا جواز التغني بالقرآن، و قصارى ما يمكن أن يكون لهم مستند أمور:

أحدها: عدم صدق الغناء فيه؛ لأنه ما اقترن بمحرم خارجي كاللعب بآلات اللهو و دخول النساء على الرجال و نحوهما من المحرمات، و المفروض عدم ذلك، و فيه ما عرفت سابقاً من اتفاق اهل اللغة و الفقهاء على انه من مقولة الاصوات أو من كيفياتها، و لا دخل للمحرم الخارجي في تحقق موضوعه.

فان قلت: نعم، و لكنّ تلك الكيفية الخاصة لا يعدها أهل العرف في قراءة القرآن غناءً و إن عدت في غيرها غناءً، و المفروض انكم وكلتم الموضوع إلى العرف كما هو الدأب و الديدن في سائر الموضوعات، قلت: هذا ناشئ من اشتباه العرف، و إلا فبعد فرض الغناء من الكيفيات الخاصة للّفظ، فأيّ دخل لخصوص اللفظ في ذلك؟، فمتى تحققت تلك الكيفية الخاصة و وجدت ينبغي تحقق الغناء و وجوده في أي لفظ كان سواء القرآن و غيره.

فان قلت: هو و إن كان من الكيفيات الخاصة للفظ لكن لا مطلقا بل الكيفية الخاصة المتخذة للّهو و انشراح النفس و الطرب كما عساه يومي اليه لهوُ الحديث، و أخْذ الطرب في تعريفه، و معروفية مجالس الغناء بذلك، فهذه الكيفية و إن ساوت كيفية القراءة في القرآن أو نقصت عنها لكن هذه الكيفية غناء، و كيفية القراءة ليست


1- المحدث الكاشاني، الوافي، 10/ 35، باب كسب المغنية و شرائها.

ص: 126

غناء لاتخاذ هذه الكيفية للهو و الطرب دون كيفية القراءة، و لعله يؤيد ذلك استثناء النوح منه و عدم ادخاله في موضوعه باعتبار عدم اتخاذه للهو و الطرب.

و الحاصل ان الكيفية الخاصة للفظ إن كانت متخذة للهو كان غناءً عرفاً، و الا فلا.

قلت: لا وجه لأخذ ذلك في حقيقة الغناء، بل إطلاق كلام أهل اللغة و الفقهاء يرد ذلك، و تعارف استعمال تلك الكيفية الخاصة في مجلس اللهو يصيّر ذلك مأخوذا في حقيقته و لا شك أن من الغناء و الاصوات الشجية المثيرة للحزن و البكاء كما يستعمله العشاق غالبا، بل هو نوع من الطرب و لهذا قالوا في تفسير الطرب انه خفة لسرور أو حزن حتى أنه حكي عن القاموس التصريح بوهم (1) من خص ذلك بالسرور (2).

فان قلت: ان ذلك و ان لم يكن مأخوذا في مطلق الموضوع لكنه مأخوذ في الموضوع الذي هو متعلق الحكم التحريمي لإشعار أدلة التحريم بذلك، قلت: قد سمعت في ما مر اطلاق الادلة المتكثرة التي كادت تكون متواترة، بل صرح بعض أصحابنا بتواترها بحرمة الغناء فلا وجه بعد للتقييد، و لو فرض في بعض الادلة اشعار بذلك فليس له قابلية تقييد ما مر من المطلقات فاللازم الحكم بتحريم مطلق الغناء.

و من هنا ظهر لك فساد كلام بعض من عاصرناه من المتأخرين (3) حيث يظهر من كلامه ان المحرم هو ذلك، فان كان هو الغناء فلا كلام، و ان كان الغناء أعم لزم تقييد المحرم بذلك، و ان كان اخص لزم تعميم المحرم.

ثانيها: ما استند اليه بعضهم من أن بين ما دل على حرمة الغناء و ما دل على استحباب قراءة القرآن عموم و خصوص من وجه، و ما دل على استحباب القراءة أرجح من جهة موافقته للأصل. و فيه أن هذا ليس من تعارض العموم المحتاج الى ترجيح بل فهم أهل العرف كاف فيه نحو العام و الخاص و المطلق و المقيد، و الا لتحقق


1- العبارة في المخطوطة هي (التصريح بفساد و هم في خص).
2- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 1/ 97.
3- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 287.

ص: 127

التعارض بين جميع أدلة المحرمات و أدلة السنن حتى الزنا و اللواط و الغيبة و الكذب و السب و الشتم و نحوها حيث تقع بالتماس المؤمن أو مع العلم بإدخال السرور عليه، فلو حكّمنا أدلة السنن على أدلة التحريم بموافقتها للأصل لم يبق حرام، و هو باطل بضرورة الشرع، على أن الظاهر من أدلة تحريم الغناء أنه قبيح لا يقبل التخصيص لجعله من قول الزور و لهو الحديث على أنه قد ورد عنهم (عليهم السلام): (أنه ما أجتمع الحلال مع الحرام الا و غلب الحرام الحلال) (1)، و انه (لا يطاع الله من حيث يعصى) (2)، على أن ذلك جار في مطلق الاقوال اذا حصل فيها نوع رجحان بأي نحو كان، و في شرح القواعد لجدي (قُدّسَ سرُّه) على أن (التعارض يثبت حيث يجعل الغناء من الاصوات، أما لو جعلناه من الكيفيات كما هو الاقوى فلا معارضة إذ لا مناقضة لعدم وحدة الموضوع) (3) انتهى. و هو كما ترى، إذ لا فرق في تحقق التعارض بين جعل الغناء من الاصوات او من الكيفيات فتبصّر.

ثالثها: بعض الاخبار الخاصة التي منها خبر أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): (إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال: انما ترائي بهذا أهلك و الناس. قال: يا أبا محمد أقرأ قراءة بين القراءتين تسمع أهلك و رجع بالقرآن صوتك فان الله تعالى يحب الصوت الحسن يرجع به ترجيعاً) (4)، و خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): لكل شي ء حلية، و حلية القرآن الصوت الحسن) (5)، و خبر عقبة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي ابن الحسين (عليه السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن و كان السقاءون يمرون فيقفون ببابه يستمعون القرآن) (6)، و خبر النوفلي عن ابي الحسن (عليه السلام) قال: (ذكرت الصوت عنده فقال: ان علي ابن الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته) (7)، الى غير ذلك من


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي، 2/ 236.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار.
3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 35.
4- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 616.
5- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 615.
6- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 616.
7- المصدر نفسه، 2/ 615.

ص: 128

الاخبار و هي خالية عن الدلالة على جواز التغني بالقرآن و ان دلت على تحسين الصوت في القرآن، و ليس كل تحسين غناء كما ان أخبار سيد الساجدين لا دلالة فيها الا على حسن صوته، و قد عرفت في ما مر ان الغناء غير حسن الصوت الذي هو من خواص الانبياء، حتى ورد في الاخبار (انه ما بعث الله نبيا الا حسن صوته) (1)، و قد عرفت ذلك مفصلا في ما مر، و على تقدير دلالة الاخبار المذكورة فليست لها قابلية معارضة ما سمعت من الاخبار المتقدمة المجبورة بما علمت من الادلة المتقدمة فاما ان تؤول او تطرح.

رابعها: بعض الاخبار النبوية منها ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم):

(ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن) (2)، و خبر عبد الرحمن بن السائب (قال: اتيت سعداً و قد كف بصره فسلمت عليه، فقال: من انت؟ فاخبرته، فقال مرحباً يا ابن اخي، بلغني انك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) يقول: ان هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فان لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا) (3)، و ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم) انه قال: (لا يأذن الله لشي ء من أهل الارض الا لأصوات المؤمنين و الصوت الحسن في بالقرآن) (4)، قال و هذه الاخبار دالة على جواز التغني بالقرآن بل على رجحانه. أقول اما الخبر الثالث فمعناه (لا يستمع) قال الشاعر:

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به و ان ذكرت بشرّ عندهم أذنُ (5)


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/ 282.
2- البيهقي، السنن الكبرى، 10/ 229.
3- البيهقي، السنن الكبرى، 10/ 231.
4- المتقي الهندي، كنز العمال، 7/ 679.
5- للشاعر قعنب بن أم صاحب، و قبله:

ص: 129

فان قلت كيف يصح ان يقال (لا يستمع) لشي ء من أهل الارض و هو يقال سامع لكل مسموع؟ قلت: معناه لا يتقبل، على حد قولك: خاطبته بكلام فلم يسمعه، و هذا كلام لا اسمعه، و هذا الخبر لا دلالة فيه على جواز التغني؛ للفرق الواضح بين الصوت الحسن و بين الغناء، و أما الخبران الاولان فيحتمل فيهما وجوه:

أحدها: ان المراد من قوله (من لم يتغن) من لم يستغن و هذا كثير في شعر العرب، نظيره قال الأعشى (1):

و كنتُ امرأً زمنا بالعراقْ عفيفَ المناخ طويل التَّغنّ

و قال الآخر (2):

كلانا غنيٌ عن اخيه حياته و نحن إذا متنا أشد تغانيا

و يؤيد ذلك ما روي عن ابن مسعود انه قال: (من قرأ سورة عمران فهو غني) (3)، و في حديث آخر (نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل) (4)، و ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) أنه قال: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي لأنه لو ملك الدنيا بأسرها كان القرآن أفضل مما ملكه) (5).

ثانيها: المراد بقوله (من لم يتغنَّ) (6) من لم يستعذب و يستحل و يتلذذ، فمن لم يتلذذ بالقرآن- كما أن أهل الطرب يتلذذون بالغناء- فليس منا، و سمى ذلك تغنيا لمشابهته الغناء في أن كل منهما صوت يتلذذ به.

ثالثها: المراد من التغني المقام من قبيل قولهم: غني الرجل بالمقام إذا طال مقامه به و منه المغنى و المغاني و منها قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)* (7) أي لم يقيموا فيها


1- الأعشى، ديوان الأعشى، 25.
2- هو المغيرة بن حبناء التميمي، ابن سلام، غريب الحديث، 2/ 172.
3- الدارمي، سنن الدارمي، 2/ 452، باختلاف قليل في الألفاظ.
4- المصدر نفسه، 2/ 453.
5- السيد المرتضى، الامالي، 1/ 24.
6- البيهقي، السنن الكبرى، 10/ 231.
7- الأعراف/ 92.

ص: 130

فيكون معنى الحديث من لم يقم على القران و تجاوزه الى سواه فليس منا.

فان قلت قد يتعدى القران الى غيره قلت ليس ذلك تعدّ للقرآن لأنه هو الدال على وجوب اتباعها هذا كله مع ان الاخبار نبوية غير معلومة السند و على تقدير صحتها و صراحتها لا بد من تأويلها أو طرحها لعدم قابليتها لمعارضة ما مر خصوصا بعد ان كان ظاهرها الالزام. هذا مع ان في خبر النوفلي عن أبي الحسن (عليه السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) قال: (اقرءوا القرآن بالحان العرب و اصواتها و إياكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر فانه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم) (1)، و في ما رواه ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) أنه قال: (من أشراط الساعة إضاعة الصلوات و أتباع الشهوات و الميل الى الأهواء- الى أن قال- فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله و يتخذونه مزامير، و يكون أقوام يتفقهون لغير الله و تكثر أولاد الزنا و يتغنون بالقرآن) (2) الحديث. و قد ورد في بعض الاخبار أنه متى حصل الاشتباه لشخص في أمر خيل في نفسه الحق و الباطل و رأى أنه (إلى) أي الأمرين أقرب فيلحقه به، و لا شك ان الغناء هو مثار الفساد و هو المحرك للشهوات الباعث على الزنا في الأجنبيات و على اللواط في الأولاد، قال جدي في شرح القواعد (و على كل حال فالذي يقع في نظري أن الغناء في باب الطاعات كقراءة القرآن أعظم من الغناء في غيرها في العصيان لزيادة الذنب الفظيع بازدياد معصية التشريع) (3).

ثانيها: مراثي سيد الشهداء،

فقد حكى في جامع المقاصد (4) عن بعضهم القول باباحته فيها، و مال اليه في مجمع البرهان (5) و الكفاية (6)، و اعتمده بعض من تأخر من


1- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 614.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 230- 231.
3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 36.
4- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 23.
5- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان، 8/ 61.
6- المحقق السبزواري، كفاية الحكام، 86.

ص: 131

أصحابنا (رحمه الله) (1)، استناداً الى الأصل لانتفاء ما يدل على تحريمه على سبيل العموم من الأخبار، و الإجماع ممنوع في المقام، و لان البكاء و الابكاء أمر مطلوب على سيد الشهداء فكثر التحريض عليه في الأخبار، حتى لو فرض وجود ما يدل على تحريم الغناء على سبيل العموم كان بينه و بين ما دل على استحباب البكاء عموم من وجه، و مع فقد المرجحات يرجع الى الأصل و هو الاباحة، على أنه قد ورد عن الصادق (عليه السلام) انه قال لأبي هارون المكفوف: (أنشدني كما تنشدون أنتم- يعني بالرّقة- و كما ترثيه عند قبره) (2)، و لانه- أي الغناء- في رثاء لحسين (عليه السلام) متعارف في بلاد المسلمين في زمن الشارع إلى زمان هذا من غير نكير، و يؤيد ذلك جواز النياحة و جواز أخذ الأجرة عليها؛ لأنها ملازمة للغناء على الظاهر، و لأن تحريم الغناء للطرب، و المراثي ليس فيها طرب و أنما هي لمطلق الحزن، و الجميع كما ترى.

أما الأول: و هو ما يدل على تحريم الغناء على سبيل العموم فهو النصوص المتقدمة الدالة على تحريم الغناء بهذا اللفظ، و هو مفرد محلى باللام يفيد العموم.

و كذلك الإجماع منقول على تحريم الغناء و هو عام كما عرفت.

فان قلت: إن عموم المفرد المحلى مستفاد من الحكمة، و ما كان كذلك يكون بحكم المطلق في الانصراف الى الأفراد المتعارفة، و مراثي الحسين (عليه السلام) ليست منها، قلت: بعد القول بتعلق الأحكام بالطبائع و الماهيات يكون المفرد المحلى باللام مفيدا للعموم اللغوي، أما لأن للطبيعة علة لثبوت الحكم، و ان ثبوت الحكم للماهية مستلزم


1- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 311.
2- العلامة الحلي، بحار الانوار، 44/ 287.

ص: 132

لثبوت الحكم لافرادها، و ان لم تكن علة فيكون تحريم الغناء كتحريم الزنا و الربا و الخمر و بيع الغرر و غيرها.

و أما الثاني: و هو التعارض بين ما دل على تحريم الغناء و ما دل على استحباب البكاء فقد عرفت في ما مر انه ليس من التعارض الذي يرجع فيه الى المرجحات، بل فهم اهل العرف تحكيم النواهي كاف في المقام كفهمهم تحكيم الخاص على العام و المطلق على المقيد. على ان ما ورد في الاخبار من انه (ما اجتمع الحرام و الحلال الا و غلب الحرام) (1)، و انه (لا يطاع الله من حيث يعصى) (2)، يكفي في ترجيح جانب النهي، الى غير ذلك مما مر مما يرجح جانب النهي، فراجع و تأمل.

و أما الثالث: و هو خبر ابي هارون (3)، فلا دلالة فيه الا على أن الرقة في الرثاء مطلوبة و هو امر غير الغناء.

و أما الرابع: و هو ادعاء السيرة على ذلك فهو في محل المنع، بل ربما يُدّعى ان سيرة العلماء الابرار على خلاف ذلك. و ما تراه- مما يستعمله بعض الاعاجم في الرثاء من الغناء فهو نظير استعمالهم تشبيه الرجال بالنساء في بعض التعازي- ليس ناشئاً عن عمل العارفين و لا عن سيرة المتدينين، و أما ما ذكره مؤيدا من جواز النياحة و اخذ الاجرة عليها فذلك لخروجها عن موضوع الغناء عرفاً.

و أما الخامس: و هو كون تحريم الغناء للطرب، و المراثي لا طرب فيها فقد عرفت ما فيه حيث ان جمعا من اهل اللغة صرحوا بأن الطرب عبارة عن خفة تعتري الانسان لسرور او هم حتى ان بعضهم قال (تخصيصه بالسرور وهم) (4) هذا ان لم نقل بخروجه عن موضوع الغناء و دخوله في موضوع النياحة التي ستعرف جوازها.

و ان قلنا بذلك فلا كلام.


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، 2/ 236.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 44/ 287.
4- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 1/ 97.

ص: 133

و كيف كان فإن قلنا بجوازه في المراثي، فإن كان المنشأ عدم وجود ما يدل على العموم و الرجوع الى الاصل او عدم وجود الطرب فيها، و الغناء ما كان غير ذلك، فلا ينبغي الاقتصار على مراثي الحسين (عليه السلام)، و أن كان المنشأ بقية ما سمعت من الادلة فالاقتصار على مراثي الحسين (عليه السلام) لازم، لمخالفة الحكم للعمومات، فيقتصر فيه على مورد المخصص.

ثالثها: الحداء

استثناه المحقق و العلامة في القواعد (1) و الشهيد في الدروس في باب الشهادات (2) و كأنه قال به الاردبيلي (3)، و نسب ذلك الى المشهور في محكي الكفاية (4)، و هو بالضم كدُعاء: مد الصوت على نحو مخصوص لسير الابل، و لا دليل على استثنائه سوى ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) انه قال: (زاد المسافر الحداء و الشعر ما كان ليس فيه خنا) (5)، و ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم) ايضاً انه قال لعبد الله بن رواحة: (حرك بالنوق فاندفع يرتجز و كان جيد الحداء و كان مع الرجال، فتبعه أنجشة و كان مع النساء، فقال النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير) (6) يعني النساء و يحتمل النوق لحرقة طبعها. و ليس فيها مع ضعف سند الاول و عامية الثاني دلالة الا على جواز الحداء، و كونه من الغناء أول الكلام بل قضية العرف تشهد بخلافه؛ لأن الظاهر انه قسيم للغناء، فيكون خارجا عن الموضوع لا عن الحكم، و لا كلام فيه. و إلا بعد دخوله في الموضوع يشكل استثناؤه؛


1- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 3/ 495.
2- الشهيد الأول، الدروس، 2/ 126.
3- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 8/ 59.
4- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 86.
5- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2/ 280.
6- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، 3/ 107.

ص: 134

لعدم وجود ما يدل على ذلك. مع ان ما يدل على حرمة الغناء مطلقاً فوق حد الاحصاء كما عرفت.

و حينئذ أن لم يكن داخلا في الموضوع فلا كلام. و إن استثنيناه- بعد دخوله فيه من الحكم فيلزم الاقتصار على خصوص الحداء لسير الابل دون غيرها من البغال و الحمير و نحوها. و لا حرج في أصوات الملاحين عند جرّ السفن و لا في اصوات الأمهات لنوم الاطفال و لا في الاصوات التي تكون من الالفاظ كالهلهولة و نحوها، و لا في الترديد المسمى بالحوراب. كل ذلك لخروجه عن موضوع الغناء، فان دخل فيه كلا او بعضاً حرم كما لو دخل في عنوان آخر من العناوين المحرمة و الله العالم.

رابعها: غناء المغنية في الأعراس اذا لم تتكلم بالباطل و لم تلعب بالملاهي

و لم تدخل عليها الرجال لورود الرخصة في اباحة اجرها المستلزم لإباحة غناها، كما التزم به جمع من اصحابنا، و في اكثر كتب الاصحاب ذكر القيود الثلاثة، و عن النهاية (1)

و المختلف (2) و النافع (3) اسقاط القيد الوسط، و كأنه لأن اللعب بالملاهي و إن كان محرماً لكنه لا يحرّم الغناء المحلل.

و كيف كان فالمنشأ في ذلك قول الصادق (عليه السلام) في صحيحة ابي بصير (اجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي تدخل عليها الرجال) (4)، و قوله (عليه السلام) في خبر ابي بصير (حين سأله عن كسب المغنيات التي تدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى الى الاعراس ليس به بأس) (5)، و قوله (عليه السلام) ايضاً:

(المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها) (6)، و فيه ان الاخبار المذكورة ليست فيها دلالة على المدّعى؛ لانه (عليه السلام) نفى البأس عن كسب المغنية التي تزف العرائس


1- الشيخ الطوسي، النهاية، 367.
2- العلامة الحلي، مختلف الشيعة، 5/ 18- 19.
3- المحقق الحلي، النافع في مختصر الشرائع، 100- 101.
4- الحر العاملي، الوسائل، 12/ 85.
5- المصدر نفسه، 12/ 84.
6- المصدر نفسه، 12/ 85.

ص: 135

و عن أجرها، و لا دلالة فيها على نفي الباس عن الاجر على الغناء، و لا على نفي البأس عن الاكتساب بالغناء، كما انه على تقدير دلالتها على ذلك لا يستلزم ذلك جواز غناءها في الأعراس. اللهم إلا أن تُدّعى الملازمة بين جواز أخذ الاجر عليه و بين حلّيته كما ادعى ذلك بعض اصحابنا بل ادّعى الضرورة عليه.

و كيف كان فالاخبار المذكورة قوية مجبورة بالشهرة المنقولة ظاهرة الدلالة و إن لم تكن نصاً في المطلوب. فالقول بالجواز مما لا باس به، و على تقديره فيلزم الاقتصار على النكاح دون ملك اليمين، و في اجراء الحكم على النكاح المنقطع وجه ليس بالبعيد. و أما الختان و نحوه من اسباب الفرح فلا يجري فيها الحكم جزما، بل يلزم في النكاح الاقتصار على المعتاد بل على الاقل منه. كل ذلك اقتصاراً على القدر المتيقَّن في ما خالف دليل التحريم، و يظهر من جدي (رحمه الله) في شرح القواعد القول بالتحريم و عدم الالتفات الى الاخبار المذكورة، قال (قُدّسَ سرُّه): (و قد ظهر مما مر أنه لا ينبغي صدور الاستثناء من أهل النظر، كيف لا و تحريم الغناء كتحريم الزنا و اخباره متواترة و ادلته متكاثرة عبّر عنه بقول الزور و لهو الحديث في القرآن، و نادت الاخبار بأنه المحرك على الفجور و العصيان، فكأن تحريمه من الامور العقلية التي لا تقبل تقييداً و لا تخصيصاً بالكلية، و كيف يخطر بالبال او يجري في الخيال ان يقع مثل هذا الكلام من سادات الانام الآمرين بترك الشبهات خوفاً من الوقوع بالمحرمات، مع انه مؤذن بجواز ما فيه معظم اللهو عن ذكر المعاد و مؤدّ الى الزنا و اللواط اللذين هما رأس الفساد، على ان في ضعف دلالة (تلك) الاخبار ما يخرجها عن محل الاعتبار و موافقتها للتقية يرفع اعتبارها في مقابلة ما مرّ بالكلية، و لو كانت في غاية الكثرة ما عادلت. فكيف مع انها في نهاية الندرة، و لو فرق بين الحق و الباطل لرأيته في القسم الثاني بديهة، و ربما كان قبحه في غير الاعراس اقل منه

ص: 136

فيها، ثمّ (إن) القول بالتحريم هو المشهور على الظاهر؛ لان كل من حرم الغناء و لم يستثنِ فهو من المحرّمين، و حاله كحال المصرحين، و هم عدد كثير من الفحول و الاساطين، لكنه بعيد عن طريقة المخالفين و المتصوفين) (1) انتهى.

و فيه ما لا يخفى من منع كون تحريم الغناء من الامور العقلية؛ لان الشارع قد حلّل جملة من اسباب الطرب كتقبيل المحبوب و ضمه و المسامرة معه و غير ذلك مما يفيد الانسان طرباً اشد من طرب الغناء، فليس تحريمه الا سمعياً، و قد عرفت ان دليل الجواز معتبر في نفسه و مجبور بالشهرة المنقولة كما سمعت، فلا محيص عن العمل به، لانه هو مقتضى قواعد الاطلاق و التقييد. نعم ينبغي الاقتصار على المغنية دون المغني مضافاً الى ما مر، و دلالة الاخبار على جواز أخذ الاجرة عليه كافية في الدلالة على جوازه لتحريمه أعواض المحرمات المستفاد من الادلة السابقة.

و كيف كان فحيث عرفت في ما سبق ان موضوع الغناء موكول الى العرف فاعلم ان خطاب كل وقت محمول على عرفه، و نحن مكلفون بما دل عليه الخطاب عند زمن الصدور و بما فهمه المشافهون منه لاشتراكنا معهم في ما كلفوا به، و لم يكلفوا إلا بما فهموه من الخطابات حين صدورها، فلو ثبت للفظ عرف جديد بعد زمن الصدور لم يكن عليه مدار، و كان المدار على عرف زمن الصدور، فلو ثبت في العرف الجديد تخصيص الغناء بما لم يكن في قرآن أو تعزية أو ذكر أو دعاء أو أذان أو مدح النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) أو الائمة (عليهم السلام) لم يكن عليه مدار (2)؛ لان المعلوم من تتبّع كلمات اهل اللغة و اصول الامويين و العباسيين و ابراهيم شيخ المغنين ان الكثير أو الاكثر او الأحق في تسميته غناءً ما كان في القرآن و مدح النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) و لا يعرف في أيامهم الفرق من جهة ذوات الكلمات، و انما المدار على كيفيات الاصوات، و هو الظاهر من كلام اهل اللغة قدمائهم و متأخريهم ممن


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 37.
2- في الأصل (عليهم) و الصحيح ما أثبتناه.

ص: 137

عاصر زمن ورود النهي أو تقدمه او تأخر عنه، و ما رأينا أحداً منهم أخذ قيد عدم القرآنية و المدح و الذكر و نحوها فيه.

فقد ظهر خطأ العرف الجديد بالتخصيص، كما ظهر خطأ من بنى على ذلك أخذاً به زاعماً أنه بمنزلة المرآة الكاشفة عن العرف، كما أخطأ العرف و من أخذ به بديهةً بتخصيص اسم الغناء غير الخارجي على وفق العربية و الفصاحة كما قد يتخيله العوام، و ليس ذلك بأول قارورة كسرت في الاسلام، فقد أخطأ العرف و الاخذ به في كثير من المقامات، فلا يحمل لفظ الغناء على المعنى الجديد كما لا تحمل الفاظ التربة و القهوة و اللبن و الساعة على المعاني الجديدة المعروفة عند اهل الفن.

و كيف كان فينبغي الرجوع الى العرف الصحيح في موضوعه الذي لا ريب في شموله للمقامات المعلومة و شعبها المعروفة عند أهل الفن، بل لا ريب في تناوله لغير ذلك مما يستعمله سواد الناس من الكيفيات المخصوصة، بل الورع يقتضي اجتناب جميع الأفراد المشكوك في اندراجها في موضوعه و أن كان الأصل يقتضي الاباحة في شبهة الموضوع الراجعة الى شبهة الحكم، قال في مفتاح الكرامة (و الذي يسهل الخطب في ما اشتبه أنه من الغناء أو من غيره أن الغناء اسم لما هو في نفس الأمر كذلك، لكن التكليف بما هو في نفس الأمر لا يصح الا مع العلم به، و غاية الامر كفاية الظن الاجتهادي في تعيينه، فلو فرض انتفاء الظن كما لو حصل الشك في بعض أفراد الصوت فيصير من حيث أنه مجهول كذلك مجهول الحكم فيدخل في شبهة نفس الحكم، و الأصل فيها الإباحة و عدم وجوب الاجتناب) (1) انتهى.

و فيه ان دعوى عدم صحة التكليف بما في نفس الأمر الا مع العلم ممنوعة. كيف و التكليف بالمجمل مما لا كلام في صحته. نعم هو خاص بما يكون للمكلف طريق للامتثال فيه و هو الإتيان بجميع محتملاته، فلو لم يكن للمكلف طريق للامتثال منعناه، و مع توجه التكليف يلزمه الاتيان بجميع المحتملات، كما ان دعوى أن الشبهة في مصداق الموضوع فترجع الى الشبهة في الحكم لا تخلو من تأمل، بل يمكن ادعاء


1- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 52.

ص: 138

كون الشبهة هنا من الشبهة في مفهوم الموضوع فيلزم الاجتناب، لأنه من قبيل التكليف بالمجمل. و يمكن دفع ذلك بمنع كون المقام من ذلك بعد معلومية جملة من الأفراد الذي يحتمل كون تمام ماهية الغناء مما اشتملت عليه فيشك حينئذ في حرمة الزائد و ينفى بأصل البراءة، و لا يعارض ذلك حرمة الغناء؛ لأحتمال كون تمام ماهيته ما في الأفراد المعلومة.

فان قلت: أن الذمة قد اشتغلت بوجوب اجتناب المحرم، و مع ارتكاب الفرد المشكوك به لا يعلم الفراغ و الامتثال، قلت: ليس في الأفراد المشتبهة فرد محرم حتى يجب اجتناب الجميع، و أحد المحتملات اباحتها جميعاً أو انحصار الحرمة في الأفراد المعلومة فإذا كان كذلك فالقول بلزوم الاجتناب للمقدمة مما لا ينبغي هنا فتبصرْ.

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (معونة الظالمين))

لأنها محرمة ذاتاً، و كل ما كان كذلك يحرم التكسب به، أما الكبرى فواضحة؛ لقوله (صلّى الله عليه و آله و سلم): (اذا حرم الله شيئاً حرم ثمنه) (1)، و أما الصغرى فأوضح لثبوتها بالعقل و النقل كتابا و سنة و بالإجماع. أما الأول فلأن العقل المستقل يدرك مبغوضية الظلم ابتداءً، و متى أدرك ذلك أدرك مبغوضية الإعانة عليه، و هو أمر واضح. و أما الأول من الثاني فقوله تعالى: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ) (2)، و لأن الإعانة تستلزم الركون، و قد قال تعالى: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ) (3)، و أما الثاني من الثاني فالأخبار المستفيضة التي كادت أن تكون متواترة التي منها خبر أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إياكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين) (4)، و خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم) (5)، و خبر أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ان أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار حتى يحكم الله بين العباد) (6)، و خبر يونس بن يعقوب قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تعنهم على بناء مسجد) (7)، و خبر السكوني عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:


1- الدارقطني، سنن الدارقطني، 3/ 7.
2- المائدة، 2.
3- هود، 113.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 128.
5- المصدر نفسه، 12/ 128.
6- المصدر نفسه، 12/ 129.
7- المصدر نفسه، 12/ 130.

ص: 139

(قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) إذا كان يوم القيامة نادى مناد، أين أعوان الظلمة؟، و من لاق لهم دواة أو ربط كيساً أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم) (1)، و ما رواه ورّام بن أبي فراس في كتابه قال:

(قال (عليه السلام) من مشى إلى ظالم ليعينه، و يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام) (2)، قال: و قال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة و أعوان الظلمة (و أشباه الظلمة) حتى من برى لهم قلما و لاق لهم دواة فيُجمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنم) (3)، إلى غير ذلك من الأخبار التي تجوز حد الإحصاء التي لا يعبأ بضعف أسانيد بعضها بعد اعتضاد بعضها ببعض.

و أما الثالث: فهو الإجماع المنقول على لسان جماعة من الفحول، بل ربما يمكن دعوى صدق اسم الظالم على الظلم في بعض الموارد كما يصدق اسم المتلف على موجد سبب الإتلاف، و ذلك كمل لو أعان بإيجاد السبب القريب. و على هذا فكل ما دل على حرمة الظلم يدل عليه. و الحاصل إن حرمة إعانة الظلمة مما لا كلام فيها، حتى أن جمعا من أصحابنا عدوها من الكبائر، بل في رواية سليمان الجعفري المروية عن تفسير العياشي (إن الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر و النظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار) (4)، و حيث ثبت أن معونة الظالمين من المحرمات فلا بد من التأمل في مقامات:


1- المصدر نفسه، 12/ 130.
2- المصدر نفسه، 12/ 131.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 131.
4- المصدر نفسه، 12/ 138.

ص: 140

أحدها: أنه لا معنى لعد كل ما له مدخلية في حصول الفعل و تحققه من الإعانة عليه، ضرورة أن شرائط الفعل التي لا يمكن وجوده بدونها و موانعه التي لا يمكن صدوره بدون عدمها من الأشياء التي لا يمكن استقلال الإنسان بها و صدورها جميعا منه. فدعوى- أن كل من أوجد شيئا من شرائط الفعل أو فعل شيئا من موانعه كان معينا على إيجاد ذلك الفعل- شطط من القول؛ انه يلزم على هذا أن يكون كل الناس من أعوان الظلمة أو جلهم، على أن قضية الرجوع إلى العرف في معنى المعونة تكذب هذه الدعوى. أ لا ترى أنه لا يصدق على صانع السيف أنه معين للقاتل به و لا على باني الدار أنه معين لصانع الخمر فيها، و لا بائع الخشب ممن يعمله صنما أو صليبا أو بائع العنب ممن يعمله خمرا أنه معين على ذلك. و لو كان كذلك لكان واجد الوجود- جل و علا- معين على الإثم، لأنه خالق الأسباب و الآلات، فليست الأمور المذكورة من الإعانة جزما، بل هي من الأمور المباحة، و الظالم مكلف بالترك، فلا بد من ميزان يرجع إليه في أمثال هذه المقامات، و ليس سوى العرف، و الظاهر أن الافعال في العرف قسمان:

الأول: قسم تصدق المعونة فيها من دون قصد ترتب الظلم و المعصية، كأَنْ يكون الانسان من أجناد الظلمة و كتّابهم و وزرائهم فان من صار من هؤلاء كان معيناً للظلمة و إن لم يقصد ترتب المعصية و الظلم على ذلك، بل ربما يمكن ادعاء ان قصد العدم لا يصرف ذلك عن كونه من المعونة، فهذه من الافعال الصريحة بذلك. و قسم لا يصدق المعونة فيه الا مع القصد، فهو من الافعال المشتركة من قبيل بيع السلاح و الامتعة على السلطان، فانه إن قصد بذلك تقوية شوكته و تقويم أمره كان إعانة له،

ص: 141

و إن لم يقصد بذلك ذلك فلا، و مثله بناء الدور للجنود، فانه إن قصد بذلك ترويج امره و عدم تعطيل أموره كان معيناً، و ان قصد بذلك غير ذلك لم يكن معيناً له، فينبغي للفقيه النبيه ان يميز بين الأفعال بالنظر الى الصدق العرفي، بل ربما يدّعى أن بعض الافعال ظاهر في الاعانة، فلو عرض له قصد مغاير صرفه، فهو من الاعانة مع القصد و مع عدمه.

نعم قصدُ الخلافِ يصرفه، من قبيل تردد بعض الاجلاء و العلماء الى الظلمة و مكاتبتهم لهم، فانه ربما تتقوى بذلك شوكتهم و تعلو بذلك كلمتهم. اللهم الا ان يكون المقصود من ذلك قضاء حوائج الضعفاء و الفقراء أو بعض الدواعي و المقتضيات الى غير ذلك، فينبغي التأمل في ذلك. و كيف كان، فلا فرق في تحريم الفعل المقصود منه المعونة بين السبب في إيجابه و فعله المعونة فقط أو هي و أمر آخر من الأمور المحللة كابتغاء الاجرة و نحوها، سواء كان كل واحد مستقل في السببية بحيث لو أنفرد كان باعثاً مستقلًا على ايجاد الفعل، أو كان المجموع المركب باعثاً بحيث لو أنفرد احدهما لم يوجد الفعل، او كانت المعونة سبباً اصلياً، أو الآخر تابعاً او بالعكس. كل ذلك لصدق معونة الظالم التي سمعت الاخبار في تحريمها.

و هل يعتبر في تحقق المعونة حصول الفعل الذي قصد ترتبه على ذلك الفعل أو لا، مثل من صَنَع سيفاً لظالم بقصد ان يقتل فيه عبداً صالحاً فلم يقتله؟ و هل يقال انه أعانه على المعصية أولا؟ الظاهر الاول و إن لم يصدر الفعل ممن قصد اعانته عليه خلافاً لبعض الاصحاب، فالظاهر منهم ان التحريم لا للإعانة بل لأمر آخر، و هو مردود بشهادة العرف بخلافه، و أنّ الظاهر في بادي الرأي ان الاعانة على الفعل انما تحصل اذا وجد، و إن لم يوجد فلا فعل حتى يعان عليه فتبصرْ.

نعم يعتبر في تحقق قصد الاعانة العلم او الظن بصدور الفعل منه؛ لانه مع العلم او الظن بعدم صدور الفعل من المعان لا يعقل تحقق قصد الاعانة، و الظاهر كفاية الشك في تحقق قصد الاعانة، كما انه يعتبر في صدق الاعانة عرفاً علمه او ظنه او احتماله مدخلية عمله في الفعل المعان عليه، فلو علم عدم مدخلية فعله كمن يصنع

ص: 142

سيفاً لشخص ليقتل به آخر مع انه قاطع (بأَنْ) (1) لا مدخلية لسيفه في ذلك، بل هو مقتول صنع السيف أم لا، فلا اعانة.

ثانيها: المراد من الظالمين هنا حكام الجور مخالفين كانوا او موافقين، فان اعانتهم على ظلمهم محرمة مطلقاً، بل ربما يعم العنوانُ الظالم لنفسه، فتدخل العُصاة في الظالمين، فتحرم اعانتهم على معاصيهم، فيكون المراد من الظالمين الظالمين لأنفسهم كالعاصين، و لغيرهم في اموالهم و ابدانهم و اعراضهم أو اديانهم كالافتاء و القضاء ممن ليس له اهلية ذلك، فعلى هذا تكون الادلة المتقدمة الدالة على حرمة اعانة الظالمين دالة على حرمة اعانة العصاة على معاصيهم. و إن أبيت عن شمول لفظ الظالمين للعصاة فلا إباء عن شمول حكمهم لهم؛ لان اعانتهم على معاصيهم محرمة بالاجماع، و قوله تعالى: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ) (2)، و لا فرق في حرمة اعانة الظلمة على ظلمهم بين ان يكونوا عاصين بذلك او لا، فالمعذور في ظلمه بجهل او نقص او تقية تحرم اعانته و إن لم يعص بظلمه. كل ذلك لإطلاق الادلة المتقدمة الدالة على حرمة اعانة الظلمة. و يظهر من الادلة بعد امعان النظر فيها ان الاعانة على ظلم الناس ليس سبيلها سبيل الاعانة على بقية المعاصي، بل الاعانة على ظلم الناس حرام و إن كانت غير مستلزمة لحصوله، و في غيره الامر أيسر من ذلك كما لا يخفى.

ثالثها: ان جميع ما مر في تحريم اعانة الظلمة على ظلمهم او على غيره من المحرمات، و أما اعانتهم على المباحات كبناء القناطر و المساجد، و مثلها الاعمال لهم كخياطة ثيابهم و بناء دورهم و نحوها، فان صدرت هذه الامور عن ميل اليهم بسبب ظلمهم و كبرهم و جبروتهم، أو بقصد السعي في اعلاء شانهم و رفع منزلتهم و حصول الاقتدار لهم على رعيتهم او تكثير سوادهم فلا كلام في حرمتها، و إن خلت من تلك الاحوال فقد ورد في جملة النصوص تحريمها، فعن الصادق (عليه السلام):


1- إضافة يقتضيها السياق.
2- مائدة، 2.

ص: 143

(لا تعنهم على بناء مسجد) (1)، و عنه (عليه السلام): (و قد سئل عن الرجل منا يصيبه الضيق و الشدة فيدْعى الى البناء يبنيه او النهر يكريه او المسنّاة يصلحها (عليه السلام) ما أحب اني عقدت لهم عقدة أو و كيت لهم وكاءً، و ان لي ما بين لابتيها، لا و لا مَدّة بقلم. ان أعوان الظلمة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد) (2)، و عنه (عليه السلام) انه قال: (يا عذافر نبئتُ أنك تعامل أبا ايوب و الربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟) (3)، و عن ابي الحسن الاول (عليه السلام) لصفوان: (كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً، فقلت: جعلت فداك، أي شي ء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل- يعني هارون- قلت: و الله ما أكريته اشراً و لا بطراً و لا للصيد و لا للهو، و لكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة و لا أتولاه بنفسي، و لكن أبعث معه غلماني، فقال: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟

قلت: نعم جعلت فداك، قال: أ تحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ فقلت:

نعم، فقال: من أحب بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار، قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، الخبر) (4) إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على حرمة إعانة الظلمة مطلقاً، و هم حكام الجور من المخالفين المدّعين للخلافة و الإمامة، و يؤيدها الاعتبار.

و من هنا نقل عن العلامة الطباطبائي أنه إذا انعقد إجماع على هذا التفصيل، و إلا فالمتجه التحريم مطلقا (5)، لاستفاضة النصوص في المنع عن إعانتهم في المباح بطريق العموم و الخصوص مع اعتبار سندها و موافقتها الاعتبار، فإن إعانتهم في المباحات تفضي إلى إعانتهم في المحرمات كما أشير إليه في الخبر (لو لا أن بني أمية


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 130.
2- المصدر نفسه، 12/ 129.
3- المصدر نفسه، 12/ 128.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 132.
5- السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، 1/ 505- 506.

ص: 144

وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعاتهم ما سلبونا حقنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم) (1) و لو لا أن ذلك لا ينفك عن الميل و الركون إليهم و حب بقائهم كما أشير إليه في رواية صفوان و غيرها و قد قال تعالى: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ) (2) قلت: لو حرمت إعانتهم على المباح و الأفعال المباحة لهم مطلقا كما هو مورد الأخبار لم يقم للمسلمين سوق. كيف و الدراهم و الدنانير و أكثر ما يخرج من المعادن المنطبعة مما تصل إلى أيدي الناس من أيديهم و بالمعاملة معهم، و كذا الزراعات و توابعها مما تكون غالبا معهم، على أن سد باب المعاملة معهم مثير للفساد و باعث على أذية العباد، خصوصا من الفرقة المحقة. و كيف يخطر بالبال و يجري في الخيال أن أئمتنا مع حثهم لنا تشييع جنائز القوم و عيادة مرضاهم و الصلاة معهم و إظهار المحبة لهم يأمروننا بتجنب معاملتهم و ترك الدخول معهم في مباحاتهم و التنفر منهم ظاهرا و التباعد عنهم، و كثرة الأخبار على حد يبعد خفاؤها على الأصحاب مع تركهم العمل بظاهرها يرفعها عن الاعتبار، فلا بد من تنزيلها إما على إرادة قصد المعونة لهم على ظلمهم فيدخل في ما قصد به الحرام، أو على حصول الميل لهم فيدخل في الركون أو على من أعد نفسه لذلك بحيث يعد من أعوانهم كخياط السلطان، فإن (من علق سوطا بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من نار يسلطه الله عليه يوم القيامة في نار جهنم) (3)، و إلا فالأخذ بظاهر الأخبار مما لا وجه له، و كفى بالسيرة القطعية المأخوذة خلفا بعد سلف شاهدا على ما ذكرنا و أوضحنا.

و الذي يظهر أن الذين أمرنا بزيادة التنفر منهم و التباعد عنهم و ألا نحب بقاءهم و أن نحب فناءهم هم أهل الباطل، و أما من كان من أهل الحق و إن حصل منه ظلم لا تشمله الأخبار. و الظاهر أن الأخبار المتقدمة محمولة على الكراهة كما يقضي


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 144.
2- هود، 113.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 130، باختلاف قليل في الألفاظ عن الوسائل.

ص: 145

بذلك قوله (عليه السلام): (لا أحب أني عقدت لهم عقدة أو و كيت لهم وكاءً) (1)، في حق سلاطين الجور أيضا من المخالفين و هم الذين كانوا في زمن صدور الأخبار، و أما سلاطين أهل الحق فالظاهر عدم كراهة إعانتهم على المباحات و (عدم) (2) كراهة الأعمال المباحة لهم، لكن لا على وجه يعد من أعوانهم و مقوّية سلطانهم، بل لا يبعد عدم الحرمة في حب بقائهم، خصوصا إذا كان بقصد صحيح كإعلاء كلمة أهل الحق و عزهم.

النوح بالباطل

و من جملة ما يحرم التكسب به النوح بالباطل، أما إذا كان بالحق فلا بأس بالتكسب به للجمع بين ما دل من الأخبار على الجواز و ما دل على المنع بحمل ما دل على الجواز على النوح بالحق، و ما دل على المنع على النوح بالباطل. أما ما دل على الجواز فأخبار منها خبر يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا و كذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمنى بأيام منى) (3)، و خبر أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: مات الوليد بن المغيرة، فقالت أم سلمة للنبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة، فأذهبُ إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها و تهيأت، و كانت من حسنها كأنها جان، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها على جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد (أبا الوليد) فتى العشيرة حامي الحقيقة ماجد يسمو إلى طلب الوتيرة قد كان غيثا في السنين و جعفرا غدقا و ميرة


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 129.
2- إضافة يقتضيها المقام.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 88.

ص: 146

فما عاب رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) ذلك و لا قال شيئاً) (1)، و خبر أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت) (2)، و سئل الصادق (عليه السلام) عن كسب النائحة فقال: (لا بأس به، قد نيح على رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم)) (3)، هذا مضافاً إلى السيرة القطعية و نوح فاطمة (عليها السلام) على أبيها، مما حكاه المخالف و المؤالف، و نوح الفاطميات على سيد الشهداء بكربلاء مما لا ينكر. و أما الأخبار المانعة، فمنها خبر الزعفراني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفر، و من أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفر) (4)، و خبر الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) في حديث المناهي: (أنه نهى عن الرنة عند المصيبة، و نهى عن النياحة و الاستماع إليها، و نهى عن تصفيق الوجه) (5)، و خبر عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن جعفر بن محمد (عليهم السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة: الفخر في الأحساب و الطعن في الأنساب و الاستقاء بالنجوم و النياحة، و إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب) (6)، و يشهد لهذا الجمع ما روي عن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) أنه قال: (لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً) (7)،


1- المصدر نفسه، 12/ 89.
2- المصدر نفسه، 12/ 90.
3- المصدر نفسه، 12/ 91.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 121/ 90.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 91.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 91.
7- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 1/ 183.

ص: 147

و حديث خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين (عليهما السلام) قالت: (سمعت عمي محمد بن علي (عليه السلام) يقول: إنما تحتاج المرأة إلى النوح لتسيل دمعتها، و لا ينبغي لها أن تقول هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح) (1).

و يمكن القول بكراهة النوح مطلقا لما رواه علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن النوح فكرهه) (2)، و يمكن تخصيص الكراهة بخصوص المشارطة كخبر حنان بن سدير، قال (كانت امرأة معنا في الحي و لها جارية نائحة فجاءت إلى أبي، فقالت: يا عم أنت تعلم أن معيشتي من الله ثمّ من هذه الجارية، فأحب أن تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك، فإن كان حلالًا و إلا بعتها و أكلت من ثمنها حتى يأتي الله بالفرج، فقال لها أبي:

و الله إني لأعظم أبا عبد الله (عليه السلام) أن أسأله عن هذه المسألة، فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أ تشارط؟ قلت و الله ما أدري أ تشارط أم لا، فقال: قل لها لا تشارط و تقبل ما أعطيت) (3)، و يمكن تخصيص الكراهة بالليل للخبر المتقدم.

و المراد من النوح بالباطل هو القول الكاذب كما دل عليه مفهوم الخبر المتقدم، أو الهجر كما اشتمل عليه الخبر الآخر، و الهجر بالضم الإفحاش و الخنا كما عن الصحاح (4)، فيكون النوح بالباطل عبارة عن وصفه بما لم يكن فيه، أو بما كان فيه من الأوصاف القبيحة و الأفعال المذمومة شرعاً كذكره بالتهتك بالمحرمات كنهب أموال الناس و الزنا و اللواط و قتل النفوس و نحو ذلك.

و الظاهر أن المبالغة ليست منه، و عن جامع المقاصد أنه يدخل فيه أو يلحق به ما لو سمع صوتها الأجانب (5)، و هو غريب، إذ ليس ذلك من النوح بالباطل جزماً،


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 90.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 92.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 89- 90.
4- الصحاح، الجوهري، 2/ 851- 852.
5- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 24.

ص: 148

و على تقدير الحرمة فهي إنما نشأت من أمر آخر لا من النوح بالباطل، على أن حرمة ذلك مبنية على حرمة سماع الأجانب صوتها من غير ريبة، و هو ممكن المنع خصوصاً مع عدم تمييز الألفاظ، و هو مدلول الخبر المتقدم، و هي وصية الباقر (عليه السلام) لجعفر بوقف شي ء لنوادب يندبنه في منى أيام منى (1) و إلا فدعوى حلَية سماع الأجانب صوت النائحة مطلقاً حتى مع الريبة و حتى مع تمييز الألفاظ في محل المنع، لأن أيام منى من المعلوم كثرة الناس و اختلاف الأصوات و الغوغاء فيها، فدعوى أن صوت النائحة تُميز الفاظه ممنوعة، كما أن حصول الريبة في صوت النائحة في تلك الأيام من جهة المشغولية و التوجه لأمر الآخرة مشكل فتبصَر.

قال جدي في شرح القواعد في بيان النوح بالباطل (إما بأن تذكر صفات كاذبة ليست في الميت، أو تذكر الصفات التي لا يسوغ ذكرها، كأن تصفه بما يرفعه في دنياه و يضعه في أخراه، أو تقضي برفعته و ضعة غيره، أو تأتي بالنوح غير السائغ لسماع الأجانب لو حرمناه، و نهى مفترض الطاعة، أو لكونه على الكفار و نحوهم. و أما الباطل بمعنى الهذر فالظاهر عدم المنع فيه) (2) انتهى. و هو كما ترى، لأنه (قُدّسَ سرُّه) إن أراد أن ذلك من النوح بالباطل فقد عرفت أنه خاص بخصوص الأمرين الأولين، و إن أراد أنه من النوح المحرم و لو لمحرم آخر فلا يختص ذلك بما ذكره (رحمه الله) بل أمثلته لا تنحصر، و الظاهر أنه يريد الأول، لأن المقصود بالبحث إنما هو جواز التكسب و هو مختص بالنوح الجائز، لأن كل نوح ممنوع منه شرعاً لا يجوز التكسب به لقوله (عليه السلام): (إذا حرَم الله شيئا حرم ثمنه) (3)، كما يظهر ذلك من قوله في ما بعد العبارة السابقة.

و على كل حال فالمدار على المنع الشرعي حتى تكون الأجرة أجرة على الحرام.

و الظاهر عدم الفرق بين الإعطاء بعد المقاطعة و بدونها، و بين الدفع مع قصد التبرع


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 88.
2- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 38.
3- علي بن عمر الدارقطني، سنن الدارقطني، 3/ 7.

ص: 149

و بدونه، لأن الظاهر من الأدلة أن جميع ما يتولد من الحرام حرام. نعم لو أعطاها لا لأجل نوحها فلا بأس. و لو خلطت بين الحق و الباطل حرُمت أيضاً، و لو خلطته بصوت الغناء حرمت أجرتها أيضاً، لظاهر الأخبار و لعدم الانفكاك عن خليط الحق.

و كيف كان فالظاهر حرمة النوح بالباطل و حرمة أخذ الأجرة عليه من غير فرق بين النائح و النائحة، كما أنه يجوز بالحق و أخذ الأجرة عليه، فما عن المبسوط من إطلاق حرمة النائحة و حكاية الإجماع على ذلك منزَل على النوح بالباطل خصوصا بعد ما يُحكى عن العلامة في المنتهى من حكاية الإجماع على جواز أخذ الأجرة على النوح بالحق المستلزم لجوازه (1). و على كل حال فلا ينبغي استثناء النوح الجائز من الغناء، لأنهما حقيقتان مختلفتان و ماهيتان متباينتان، و هل يخفى الفرق بين الأصوات المهيجة للأحزان لفراق الأرحام و الإخوان و بين ما يهيج حرق الأشواق و يضرم النار في قلوب العشاق؟ أين حرقة المحزون من تطريب العاشق المفتون؟ فلو طرق السمع من داخل الدار أو محل بعيد عن الأبصار صوت النداء عرف أنه من الغناء أو العزاء، فبعد التأمل في البين ظهر التباين بين القسمين، بل بعد التأمل بعين الإنصاف يُعلم أن النائح أو النائحة لو مدّا أصواتهما تمام المد، و تجاوزا في الترجيع الحد، و لم يخرجا عن صفة النياحة المعروفة لم يوصفا بصفة الغناء الموصوفة.

حفظ كتب الضلال
اشارة

و من جملة ما يحرم التكسب به حفظ كتب الضلال الثابت ضلالها بقاطع أو بدليل ظني لا يعذر صاحبه لحرمته، و المراد من حرمة الحفظ وجوب الإتلاف كما صرح به جمع من الأصحاب، و هو إما من جهة استلزام حرمة الحفظ لوجوب الإتلاف أو أنه كناية عنه. و يدل على حرمة الحفظ بعد حكم العقل بوجوب إتلاف كل ما يكون مثاراً للفساد، ففي الخلاف ممن لا خلاف في الاعتماد عليه و هو العلامة في التذكرة و المنتهى (2)، و قال في محكي المقنعة (و التكسب بحفظ كتب الضلال و كتبه


1- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1012.
2- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 582، منتهى المطلب، 2/ 1013.

ص: 150

(على غير ما ذكرنا) حرام) (1)، فقد اتفقت الفتاوى على تحريم نسخها و حفظها إلا ما استثني، فكان الإجماع معلوما إذ لا مخالف و لا متردد، و حيث كانت داخلة تحت الوضع للحرام و تحت ما من شأنه ترتب الفساد عليه وجب إتلافها، كما يجب إتلاف هياكل العبادة المبتدعة بل هي أولى من هياكل العبادة في لزوم الإتلاف، بل يمكن استفادة حرمة حفظها من قوله تعالى: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ) (2) و من قوله تعالى: (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (3).

بل يمكن استفادة ذلك مما دل على وجوب جهاد أهل الضلال و إضعافهم بكل ما يمكن، ضرورة معلومية كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم بتدمير أهله، فبالأولى تدمير ما يقتضي قوته، قال في مفتاح الكرامة (مضافاً إلى أنها بدعة، فيجب دفعها من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يؤيد ذلك أن في ذلك نوع إعانة على الإثم، فقد يحصل منه ميل إليها فيعمل بها، و قد ينبئ حفظها عن الرضا بها و الاعتقاد بما فيها) (4)، و يدل عليه أيضا مواضع من خبر تحف العقول، منها قوله (عليه السلام):

(و كل منهي عنه مما يُتقرَب به لغير الله، أو يقوى به الكفر إلا في حال الضرورة) (5)، و منها قوله (عليه السلام): (و ذلك إنما حرَم الصناعة التي هي حرام كلها التي يجي ء منها الفساد محضاً) (6)، و منها قوله (عليه السلام): (و ما يكون منه و فيه الفساد


1- الشيخ المفيد، المقنعة، 589، و ما بين المعقوفتين من المقنعة.
2- لقمان، 6.
3- الحج، 30.
4- محمد الجواد العاملي، مفتاح الكرامة، 4/ 62، و ما بين المعقوفتين من المفتاح.
5- ابن شعبة، تحف العقول، 247، و العبارة في التحف (الكفر و الشرك) و ليس فيها (إلا في حال الضرورة).
6- ابن شعبة، 250.

ص: 151

و لا يكون فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلب من جميع وجوه الحركات كلها) (1).

أو ربما استدل بعض أصحابنا المتأخرين بظاهر قوله (عليه السلام) في خبر الحذّاء:

(من علَم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به) (2)، و هو كما ترى.

و استدل آخر برواية عبد الملك بن أعين (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني قد ابتُليت بهذا العلم و أريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع شراً جلست و لم أذهب فيها، فإذا رأيت الطالع خيرا ذهبت في الحاجة، فقال لي: تقضي؟ قلت: نعم، قال أحرق كتبك) (3)، بناءً على أن الأمر للوجوب دون الإرشاد، للخلاص من الابتلاء بالحكم بالجزم. و لا فرق في وجوب الإتلاف بين الأمن من ترتب الضلال عليها و الفساد و الاطلاع و عدمه. كل ذلك لأن المفهوم من الأدلة أن الشارع يريد إتلافها و عدم وجودها في الخارج، لأنها موضوعة للفساد، نظير هياكل العبادة المبتدعة، فكما أن تلك يجب إتلافها و إن شك في ترتب الفساد عليها أو ظن بعدمه أو قطع فكذلك هذه، بل هذه أولى بلزوم الإتلاف. قال بعض المعاصرين من المتأخرين (و مقتضى الاستفصال في هذه الرواية أنه إذا لم يترتب على بقاء كتب الضلال مفسدة لم يحرم، و هذا أيضاً مقتضى ما تقدم من إناطة التحريم بما يخشى منه الفساد محضا) (4)، و يريد بالرواية رواية عبد الملك بن أعين.

و فيه ما لا يخفى، لأن الإمام (عليه السلام) لم يستفصل في رواية ابن أعين، و إنما أنكر عليه القضاء مع كون ذلك من الباطل، و فرق بين ذلك و بين الاستفصال كما لا يخفى، و في رواية تحف العقول لم ينط التحريم بما يخشى منه الفساد، و إنما أناطه بما يجي ء منها الفساد محضاً، أي أنها لا يجي ء منها الصلاح، بمعنى أنها وضعت للفساد


1- ابن شعبة، 250.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 1/ 35.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 269.
4- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 234.

ص: 152

كما لا يخفى أيضاً، و يشعر بذلك قوله (عليه السلام): (و لا يكون فيه شي ء من وجوه الصلاح) (1)، على أن معقد نفي الخلاف مطلق كما سمعت، على أن المفهوم من الأدلة في هذا الباب و في باب ما قصد منه المحرم أن الشارع لا يريد بقاء ما وضع على الفساد، حصل منه الفساد أو لا، ثمّ قال بعد الكلام السابق: (نعم، المصلحة الموهومة أو المحققة النادرة لا اعتبار بها، فلا يجوز الإبقاء بمجرد احتمال ترتب مصلحة على ذلك، مع كون الغالب ترتب مفسدة، و كذلك المصلحة النادرة غير المعتد بها.

و قد تحصّل من ذلك أن حفظ كتب الضلال لا يحرم إلا من حيث ترتب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا، فإن لم يكن كذلك أو كانت المفسدة المحققة معارضة بمصلحة أقوى، أو عارضت المفسدة المتوقعة مصلحة أقوى أو أقرب وقوعا منها، فلا دليل على الحرمة إلا أن يثبت إجماع، أو يُلتزم بإطلاق عنوان نفي الخلاف الذي لا يقصر عن نقل الإجماع) (2) انتهى كلامه.

و فيه ما لا يخفى من أن ظاهر الأدلة وجوب إتلافها و عدم جواز إبقائها كما عرفت نظير ذلك في هياكل العبادة المبتدعة حتى صار ذلك أصلًا، فكل مقام دل الدليل فيه على جواز الإبقاء لمصلحة حكمنا به كمصلحة النقض، و كل مقام لم يدل دليل فيه على جواز الإبقاء لم نحكم به و إن كانت هناك مصلحة، هذا مضافا إلى إطلاق عنوان نفي الخلاف كما اعترف به. و دعوى- أن الأصل جواز الإبقاء و الإمساك و براءة الذمة من وجوب الإتلاف و القدر المتيقّن من الأدلة ما لا مصلحة فيه مما يترتب عليه مفسدة الضلالة- رجوعٌ إلى القهقرى، ضرورة انقطاع ذلك الأصل بظاهر الأدلة الدالة على وجوب الإتلاف و صيرورة وجوب الإتلاف أصلا جديدا فتبصَر.

ثمّ لا يخفى أن وجوب إتلافها كفائي لا يختص بالمالك، و لا يتوقف على إذنه، فإن لم يكن عزل الضلال منها ممكنا أتلف الجميع و لا ضمان، و إن أمكن عزله اكتفى بعزله، و لو أتلفه فسرى التلف إلى غيره في صورة إمكان إتلافه وحده فالظاهر


1- ابن شعبة، تحف العقول، 250.
2- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 234.

ص: 153

الضمان، و هل يجب على المتلف مراعاة الأقرب فالأقرب إلى بقاء المادة أو لا، بل هو مخير؟ وجهان أوجههما الثاني. قال جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرح القواعد (و كذا كل كتاب اشتمل على قدح بمؤمن أو أذية لمسلم) (1)، يعني يكون حكمه حكم كتب الضلال في وجوب الإتلاف، و هو لا يخلو من وجه.

و كيف كان فلا بد من بيان المراد بكتب الضلال في لسان الأصحاب، فأقول و بالله المستعان و عليه التكلان.

بيان معنى كتب الضلال

صرح غير واحد من أهل اللغة بأن الضلال يكون بمعنى الباطل، و الظاهر أن منه قوله تعالى: (فَمٰا ذٰا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلٰالُ) (2)، و على ذلك تكون الإضافة بيانية أي:

كتب هي الضلال أي الباطل، و المراد من الباطل ما كان باطلا في نفسه أي: بمعنى (في) أي كتب في الضلال أي: الباطل، و المرادُ من الكتاب المكتوبُ.

و صرح غير واحد من أهل اللغة بأن الضلال ضد الهدى و الرشاد، و منه قوله تعالى (وَ لَا الضّٰالِّينَ) (3)، فتكون الإضافة بمعنى اللام، و يحتمل حينئذ معنيان:

أحدهما: إن المراد بكتب الضلال الكتب التي وضعت للضلال و إن لم تسببه.

و ثانيهما: الكتب التي توجب الضلال و تسببه و إن لم تكن وضعت له، و تكون الإضافة من إضافة السبب إلى المسبب.

لا سبيل إلى إرادة الأول؛ لأصالة جواز الإمساك و أصالة براءة الذمة من وجوب الإتلاف؛ و لأن القدر المتيقّن من معقد نفي الخلاف ما كان موجبا للضلال بالفعل أو بالقوة، و لا أقل من الشك في شمول معقد نفي الخلاف لغيره، فيبقى على عموم حكم الأصل، خصوصا بعد الالتفات إلى قوله (عليه السلام) في خبر تحف العقول (و كل منهيّ عنه في ما يُتقرَب به لغير الله و يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 46.
2- يونس، 32.
3- الفاتحة، 7.

ص: 154

المعاصي، أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلب فيه) (1)، إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك، و قوله (عليه السلام) في الخبر المذكور: (إنما حرَم الله الصناعة التي هي حرام كلها، التي يجي ء منها الفساد محضاً) (2)، و قوله فيه: (و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام) (3)، و لا شك أن ما يكون باطلا في نفسه لا يقوَي الكفر و الشرك و لا يوهن الحق، و لا يجي ء منه الفساد محضا كما هو المفروض، بل ما نشاهده من السيرة القطعية من العلماء من استعمال مقامات الحريري و الكتاب المعروف بكليلة و دمنة مما يمنع من إرادة هذا المعنى؛ لأنها من الأباطيل الصرف كما لا يخفى على من مارسها.

و الحاصل أن ما كان من الكتب جامعا للباطل في نفسه من دون أن يترتب عليه ضلالة لا يجب إتلافه؛ لأنه من الأشياء المتموَلة التي تقابل بالمال، بل لا يجوز إتلافه لذلك. و ما في بعض كتب أصحابنا من أنه لا يدخل تحت الأموال فلا يقابل بالمال لعدم المنفعة المحللة المقصودة، فيه مضافا إلى آيتي لهو الحديث و قول الزور (4) فيه ما لا يخفى؛ لأن الانتفاع به قد يكون بالانتقال من الباطل إلى مطلب صحيح، و بعد فرض جواز إمساكه و عدم وجوب إتلاف منافعه لا تحصى و كلها منافع مقصودة محللة (5).

و أما الاستناد إلى الآيتين فقد عرفت أنهما مفسّرتين بالغناء في صحيح الأخبار، فلا وجه للاستدلال بهما بعدُ، كما لا سبيل لإرادة المعنى الثاني؛ لأن ما وضع للضلال قد يكون مسببا للهدى، فلا وجه للقول بوجوب إتلافه و حرمة حفظه، مضافا إلى ما عرفت من أن ظاهر الأدلة لا يقتضيه، و الحكم على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، فليس إلا إرادة المعنى الثالث، و هو ما كان


1- ابن شعبة، تحف العقول، 247.
2- المصدر نفسه، 250.
3- المصدر نفسه، 250.
4- لقمان، 6؛ حج، 30.
5- العبارة غير مستقيمة المعنى، و الظاهر وجود سقط فيها.

ص: 155

مسببا للضلال و موجبا له، إما بالفعل أو بالقوة، سواء كان موضوعا للضلال أم لا، بل يدخل في ذلك ما كان موضوعا للحق كبعض الكتب التي ظواهرها منكرة، و يدَعون أن المراد منها غير ظاهرها كبعض كتب العرفاء و الحكماء و المتصوفة و الكشفية.

و لعل ما ذكرناه هو مراد جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرح القواعد حيث يقول: (بل المراد و الله أعلم (أن الكتب) التي وضعت للاستدلال على تقوية الضلال يجب إتلافها فضلا عن غيره من نُسَخ و غيره) لقوله بعد ذلك (سواء تقوت بها كلمة الكفر الإسلامي أو الإيماني أو خلاف الشرعي الفرعي الثابت بالدليل القطعي) (1)، لظهور العبارة المذكورة في ما كانت سببا للقوة كما لا يخفى على المنصف المتأمل.

و لا فرق بعد الاطلاع على الأدلة المذكورة بين ما كان كله ضلالًا أو بعضه، فيجب إتلاف البعض الضلالي، حتى لو توقف إتلافه على إتلاف الكل وجب و لا ضمان.

و من هنا يظهر لك ما في كلام بعض الأصحاب حيث استظهر من الأصحاب كون المراد بكتب الضلال ما كان كلها ضلالًا حتى ادّعى الاجماع على ذلك، قال: (و الحق أن إفراد الحق عن الضلال غير مستحسن و ليس من عادة الأصحاب)، و قال آخر (و هو الذي تقتضيه حقيقة اللفظ من دون تجوّز و هو معقد الإجماع و مصب الفتاوى) (2)، فإن أوّلوا حكاية الإجماع على وجوب إتلاف ما كان كله ضلالًا فمسلّم، و لا ينافي وجوب إتلاف البعض الضلالي في ما كان بعضها ضلالًا، و إن أرادا حكاية الإجماع على عدم وجوب إتلاف البعض الضلالي فممنوع؛ لأن الوجوب ظاهرُ جمعٍ و صريحُ آخرين كما لا يخفى على المتتبّع.

و من جملة الضلال الذي يجب محوه و إتلافه على ما ذهبنا إليه- لو لم تكن ضرورة المذهب على خلافه فلا يوجب ضلالًا- كلام صاحب الحدائق في المسألة حيث افترى على الأصحاب بأنهم اتبعوا الشافعي في تدوين علم الأصول استحساناً و طوّل في ذلك غاية التطويل، و ملأ الصحف من الأباطيل، و من أراد الوقوف على


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 47، و ما بين المعقوفتين من شرح القواعد.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 58.

ص: 156

كلامه فليراجع كتاب الحدائق في المقام، فإن له فيها كلاماً تمجّه الأسماع، و لا تقبله الطباع (1).

و على كل حال فقد ظهر لك أن التوراة و الإنجيل ليسا من كتب الضلال سواء قلنا بتحريفهما أم لا؛ لأنهما لا يسببان ضلالًا بعد بداهة نسخهما، كما أن غالب كتب المخالفين و أهل الملل الفاسدة خارجة عن كتب الضلال في هذه الأوقات؛ باعتبار ما وقع من جملة أصحابنا من نقضها و فسادها، فلا تسبب ضلالًا بعدُ بل هي كالتالفة.

و مما ذكرناه يعلم حال كتب الفقهاء و المحدّثين و اللغويين و المفسرين من المخالفين، فإن كل ما كان موجبا للضلال بالفعل أو بالقوة يجب محوه و إتلافه، و ما لا يكون كذلك لا يجب، بل لا يجوز إذا كانت فيه منفعة محللة مقصودة، بل لا يجوز و إن لم تكن؛ لأنه من الأموال و إن لم يكن. و كيف كان فلا يجوز إمساك الكتب المذكورة إلا للنقض عليها؛ لأنه أعظم نفعاً من الإتلاف؛ لأن إتلاف بعض آحادها لا يقضي برفع فسادها؛ و لأن إتلاف كلها إنما يحصل بإبطالها من أصلها، و لأن الجهاد بالأقلام أعظم نفعاً من الجهاد بالسهام، و حيث كان غرض الشارع فيها الإبطال كان الأقوى في حصوله الرد بطرق الاستدلال، و لا يجوز إمساكها لغير ما ذكر؛ لأن المستفاد من الأدلة الشرعية وجوب إتلافها فوراً، و عدم جواز إبقائها آناً واحداً، فما دل الدليل على الإمساك و الإبقاء له حكمنا به، و في ما عداه فيرجع إلى القانون الشرعي.

هجاء المؤمنين

و من جملة ما يحرم التكسب به هجاء المؤمنين، و هو مشترك لفظي بين الذم في الشعر و النثر و بين الذم في (2) فعن الصحاح (الهجاء خلاف المدح) (3)، و هو عام


1- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، 22/ 90.
2- الكلمة هنا غير مقروءة.
3- الصحاح، الجوهري، 6/ 2533.

ص: 157

للشعر و غيره، و عن ظاهر القاموس و النهاية و المصباح (1)، اختصاصه بالشعر، و دعوى أنه متحد المعنى، و هو الذم بالشعر خاصة لحمل المطلق على المقيد في كلام أهل اللغة وهمٌ صرف. نعم حكم ذلك تعارض الإطلاق و التقييد في الأخبار، و الفرق بينه و بين المقام واضح؛ لأن حمل المطلق على المقيد فرع كون المطلق غير نافلٍ لقيد، و ذلك إنما يكون في مقام الحكم، و أما في مقام التعريف فالظاهر أن المطلق مقيد بالعدم، و مع ذلك كيف يكون مطلقاً؛ لأن من يقول في مقام التعريف أن الهجاء خلاف المدح يريد أنه هذا لا غير، فكيف يكون مطلقاً.

فإن قلت: إنكم قد قلتم إن من اقتصر من أهل اللغة على المعنى الواحد للفظ لا يكون نافيا لما عداه فلا يعارض من ذكر معنيين أو أكثر لاحتمال عدم اطلاعه على غير ذلك المعنى، فلعل المطلق لم يطّلع على القيد فلا يكون نافياً له، فلا يعارض من قيّد.

قلت: ذلك في تعداد المعاني مسلّم؛ لأن كلامهم بذكر ما اطلع عليه من المعاني و لا ينفي ما عداه. و أما في بيان المعنى فالظاهر أن كل من تعرض له ذكر تمام معناه، فيكون المطلق نافيا للقيد و المقيِّد مثبتا له، و ليس ذلك من تعارض النافي و المثبت؛ لأن النافي يدّعي أن المطلق تمام المعنى، فهو مثبت أيضاً، فلا يُقدّم قول المقيِّد من حيث النفي و الإثبات.

فإن قلت: إن تعبير أهل اللغة بالأعم كثير غالب، فيكون ذكر الأخص قرينة على إرادته من الأعم، و هذا معنى حمل المطلق على المقيد في كلام أهل اللغة. قلت: كما أن التعبير بالأعم غالب كثير، كذلك التعبير بالأخص كثير غالب في كلامهم، فلِمَ لا تَجعل ذكر الأعم قرينة على إرادته من الأخص، فترجيح أحدهما على الآخر من غير مرجّح. على أنّا نقول أن مبنى حمل المطلق على المقيد فَهمُ العرف، و ذلك إنما يكون في كلام المتكلم الواحد أو ما هو بحكمه، من قبيل كلام الله و رسوله و الأئمة (عليهم السلام) لاطلاع كل واحد منهم على كلام الآخر و بيانه.


1- الفيروزآبادي، القاموس، 4/ 402؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 5/ 248؛ الفيومي، المصباح المنير، 2/ 133.

ص: 158

و الحاصل أنه يدور مدار الحكم الواحد و المراد الواحد، و أما في مثل كلام المصنفين و المؤلفين المتعددين فهو من الأوهام الغريبة، بل ربما نمنع ذلك في كلام المصنف الواحد، و لا نحمل المطلق فيه على المقيد، بل نجعل الثاني عدولًا عن الأول.

على أن مبنى التقييد العلم باتحاد التكليف، و مع إمكان كونهما تكليفين لا وجه للتقييد. و المفروض هنا احتمال الوضع للمطلق و المقيد قائم، بل ظاهر كلام الناقلين ذلك، فحمل إطلاق كلام أحدهما على الآخر مما لا وجه له، فمقتضى ما ذكرناه و قررناه الحكم بكونهما معاً معينين؛ لأنهما ناقلان عن الوضع و لا معارض لشي ء منهما. نعم يمكن دعوى كون الهجاء متحد المعنى عرفاً؛ لصيرورته حقيقة عرفية في خصوص الذم بالشعر، كما أنه يمكن منع دعوى إرادة صاحب الصحاح (1) التعريف حتى يتجه الكلام السابق، و إنما غرضه إيكاله إلى العرف، و المفروض أنه في العرف الذم بالشعر، فيكون لغة و عرفا متحد المعنى، و هو الذم بالشعر.

و كيف كان فمن العجيب ما حكاه بعض من تأخر من أصحابنا عن جامع المقاصد من أن الهجاء هو ما ذكر في الإنسان من المعايب بالشعر (2)؛ لأن ذلك لا يساعده عليه كلام أهل اللغة و لا العرف فتبصّر.

و كيف كان فإن قلنا: إن الهجاء هو ذم الإنسان بما هو فيه من المعايب بالشعر، فإن جعلنا الغيبة ذكر الإنسان بما هو فيه أيضا كان بينهما عموم و خصوص مطلق، و العموم في جانب الغيبة، و إن عممناه لما هو فيه و لغيره في الشعر و عممنا الغيبة كذلك كان أيضا بينهما عموم و خصوص مطلق، و العموم في جانب الغيبة، و إن خصصنا الغيبة بما فيه، و عممنا الهجاء و خصصناه في الشعر كان بينهما عموم و خصوص من وجه، و إن عممناه للشعر و النثر، لما هو فيه و لغيره كانا متساويين.

و كيف كان فإفراده بالبحث عن الغيبة؛ لأنه أشد تحريما لدوامه و حفظه و استمراره، و يدل على تحريم ذم المؤمن نثراً أو نظماً بما هو فيه و بغيره ما دل على حرمة إيذاء المؤمن و ظلمه و هتك حرمته و إدخال النقص عليه و محبة شياع الفاحشة


1- الجوهري، الصحاح، 6/ 2533.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 26.

ص: 159

فيه و اغتيابه و الغمز عليه، و على أن ماله و دمه و عرضه محرمة، و يدل على حرمة هجائه بالخصوص الإجماع المنقول عن المنتهى و كشف اللثام (1)، و نفي الخلاف عن التذكرة (2). و لا فرق في حرمة الهجاء بين عدول المسلمين و فسّاقهم المتجاهرين و غيرهم؛ لعموم الكتاب و السنة و الإجماع. و عن الشهيد في حواشي القواعد جواز هجاء الفاسق المتظاهر، و ربما استند إلى قوله (عليهم السلام): (محّصوا ذنوبكم بغيبة الفاسقين) (3)، قال بعض أصحابنا (و فيه أنه قد يُفرّق بين الهجاء و الغيبة ببنائه على الدوام و الاستمرار دونها، فالإذن فيها لا يقتضي الإذن فيه)، أقول: إن أراد (أن) (4) بناءه على الدوام و الاستمرار أخرجه عن موضوع الغيبة و صيّره قسيما لها لاعتبار عدم الاستمرار و الدوام في الغيبة فهو ممنوع، و إن أراد أنه و إن كان منها لا يدل الحديث على جوازه فهو كما ترى. كما أن بعض المتأخرين من أصحابنا قال: (إن الحديث لا يقتضي جواز الهجاء بعد فرض اختصاصه بالشعر) (5)؛ ضرورة أن اختصاصه بالشعر صيّره أخص مطلقا، و ما يدل على جواز الأعم يدل على جواز الأخص كما لا يخفى، فلا بد من تنزيل الحديث على خصوص المتجاهر، و القول بجواز هجوه أو تنزيله على الخارج عن الإيمان كما حمله على ذلك بعض المعاصرين، قال بعض المتأخرين (و دعوى- كون التعارض من وجه بناء على أن الهجاء أعم من الغيبة بعد فرض تسليمها- يمكن دفعها بترجيح دليل الحرمة باعتضاده بما عرفت) (6).

يريد أنا لو قلنا أن الهجاء هو وصف الإنسان بما ينقصه في الشعر سواء كانت الصفات فيه أو لا، و الغيبة هي وصفه بما هو فيه في الشعر و في غيره يكون التعارض


1- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1013؛ الفاضل الهندي، كشف اللثام، 2/ 373.
2- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 1/ 582.
3- لم أجده في ما بين يدي من المصادر إلا في المكاسب للشيخ الأنصاري، 2/ 118.
4- إضافة يقتضيها المقام.
5- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 61.
6- المصدر نفسه، 22/ 61.

ص: 160

بين ما دل على جواز الغيبة و ما دل على حرمة الهجو عموم من وجه؛ لأن ما دل على جواز الغيبة يدل على جواز وصفه بما هو فيه في الشعر، و ما دل على حرمة الهجو يدل على حرمة وصفه بما هو فيه في الشعر، و لكن الترجيح لأدلة حرمة الهجو لاعتضادها بما دل على حرمة ظلم المؤمن و إيذائه و هتك حرمته و غير ذلك مما عرفت من الأدلة أقوى، و دعوى أن الترجيح لدليل الحرمة مشكل بعد الالتفات إلى الأخبار المستفيضة التي أسقطت حرمة الفاسق المتجاهر بالفسق، كخبر هارون بن الجهم: (إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة) (1)، و قوله (عليه السلام) في رواية أبي البختريّ: (ثلاثة ليس لهم حرمة .. إلى أن قال: و الفاسق المعلن بفسقه) (2)، و قوله (عليه السلام) في خبر ابن أبي يعفور بعد تعريف العدالة (إن الدليل على ذلك أن يكون ساتراً لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك) (3)، إلى غير ذلك من الأخبار التي ستمر عليك إن شاء الله، في مستثنيات الغيبة. و بعد الالتفات إليها يشكل القول بترجيح دليل الحرمة.

و كيف كان فإن لم ينعقد الإجماع على حرمة هجو الفاسق المتجاهر بالفسق، فالقول بجواز هجوه لا يخلو من وجه. و أما هجو الفاسق غير المتجاهر فالظاهر جوازه إذا توقف ردع الفاسق عن فسقه عليه، بل يمكن القول بوجوبه لدخوله في مراتب النهي عن المنكر، كما قد يجب لو توقف عليه دفع الضرر عن الهاجي أو المهجو بدنا أو مالًا أو عرضاً. قال جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرح القواعد (و لو كان لمصلحة عظيمة أو دفع مفسدة عن المهجو دنيوية كدفع الهلكة عن نفسه، أو المؤاخذة بعد الحلول في رمسه، بالنهي عن الفساد حسن و لو بالهجو على رءوس الأشهاد) (4)، أقول: المنشأ في ذلك تحكيم أدلة النهي عن المنكر على أدلة حرمة الهجو، و هو على إطلاقه مشكل، خصوصاً بالنسبة إلى بعض المحرمات، فينبغي


1- الشيخ الصدوق، الأمالي، 93.
2- الحر العاملي، الوسائل، 8/ 605.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 85/ 37، باختلاف في الألفاظ.
4- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 48.

ص: 161

للفقيه النبيه أن يكون في مثل هذه المقامات مراعيا للميزان. و مثل ذلك تجويزه مع خوف الضرر على الهاجي و المهجو مطلقاً، بل ينبغي أن يراعي الميزان في المقامات المختلفة. نعم، بالنسبة إلى الخوف على النفس هو جائز مطلقاً، كما ينبغي مراعاة المحرمات و أنواع الضرر (و) ينبغي مراعاة حال المهجو و الهاجي و الهجاء لاختلاف شدة الإثم و ضعفه، حتى أنه قال بعض أصحابنا (كلما كان الشعر أجود كان الوزر أشد، كما أن مسجَع النثر و أفصحه أشد إثما من غيره) (1).

و كيف كان فلا تجوز المقاصّة في الهجاء لتعلق الحقّين به: حق الله و حق الناس.

و من كتب هجو المؤمن في ديوانه وجب عليه كفايةً محوه و وجب على الناس ردعه على إشكال. هذا كله بالنظر إلى هجاء المؤمنين، و أما بالنظر إلى المشركين فلا كلام و لا خلاف في جواز هجوهم، كما لا كلام في جواز لعنهم و سبهم و شتمهم ما لم يكن قذفا مع عدم شرائطه أو فحشاً، و قد أمر رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) حساناً بهجوهم و قال: (إنه أشد عليهم من رشق النبال) (2)، و لو رجعوا عن عقيدتهم أو تاب الفاسق المتجاهر على تقدير جواز هجوه و كان قد كتب لزم محوه إن أوجبنا محو هجو المؤمن، و الظاهر إلحاق المخالفين بالمشركين لعدم الفرق بين الكفر الإسلامي و الإيماني، بل لعل هجاءهم على رءوس الأشهاد من أفضل عبادة العُبّاد ما لم تمنع من ذلك التقية.

الغيبة
اشارة

و من جملة ما يحرم التكسب به الغيبة، و حرمتها و حرمة الاكتساب بها من الضروريات، و هي و إن لم يكن لذكرها في ما يحرم التكسب به فريد مناسبة؛ لأنها ليست مما يتعارف الاكتساب بها. و مثله الكذب و أضرابهما، و لكن حيث جرى ديدن الأصحاب بذكر هذه المحرمات في هذا الباب، فينبغي أن نقتفي أثرهم و نسلك جادتهم، فنقول:

يقع الكلام في الغيبة في مقامات:
اشارة

1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 61.
2- البيهقي، السنن الكبرى، 10/ 228.

ص: 162

أحدها: بيان موضوعها،

قال في محكي القاموس (غابه: عابه و ذكره بما فيه من السوء) (1)، و في محكي المصباح المنير (اغتابه إذا ذكره بما يكره من العيوب، و هو حق) (2)، و قال في محكي الصحاح (هي أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه، فإن كان صدقا يسمى غيبة، و إن كان كذبا يسمى بهتاناً) (3)، و مثله ما عن مجمع البحرين (4) حرفا بحرف و في محكي نهاية ابن الأثير (أن يذكر الإنسان في غَيبته بسوء إن كان فيه) (5). هذا تعريفها في كلام أهل اللغة، و أما تعريفها في الأخبار، فقال في محكي جامع المقاصد و حدّها على ما في الأخبار: أن يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه (6)، و في المروي عن مكارم الأخلاق (قلت: يا رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم)، فإن كان فيه ذلك الذي يكره، قال:

اعلم أنك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إن ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه) (7).

أقول: المستفاد من كلام أهل اللغة أن الغيبة من مقولة الألفاظ، و هو المتبادر من إطلاقها عرفا؛ لأنها قد عُرّفت في كلام أهل اللغة و في الأخبار بالذكر و التكلم و القول، و لا شك أن المنساق من الذكرِ الذكرُ اللفظي، فكل ما لا يكون من مقولة الألفاظ كالإشارة و الكتابة و حكاية الأفعال فليس من الغيبة موضوعا و إن كان منها حكما، بل أعظم منها تحريماً، فإنّ ما يقصد به التهكّم و التفكّه و السخرية و الاستهزاء و إضحاك الناس من الإشارة و حكاية الأفعال أعظم من الغيبة تحريما، و لكنه ليس


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 1/ 112.
2- الفيومي، المصباح المنير، 2/ 49.
3- الجوهري، الصحاح، 1/ 96.
4- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 343.
5- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 3/ 399.
6- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 27.
7- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، 470.

ص: 163

منها موضوعا، لغةً و عرفاً، و إطلاق الغيبة على إشارة عائشة بيدها للمرأة القصيرة في الحديث النبوي من المجاز (1).

نعم لا فرق في اللفظ بين ما يدل على المكروه صريحا و بين ما يدل عليه كناية و تعريضاً، و لو سلّمنا صدق الغيبة مع إشارة الأخرس أو مع مطلق الإشارة أو مع الكتابة فلا نسلم صدقها مع التحاكي بالأفعال، و لعل من ألحقها بالغيبة أراد الإلحاق الحكمي لا الاسمي و لا ريب فيه، قال في جامع المقاصد (و في حكم القول الإشارة باليد و غيرها (من الجوارح أو) من التحاكي بفعله أو قوله كمشية الأعرج) (2)، و من هنا يظهر لك ما في كلام بعض من عاصرناه من المتأخرين حيث قال: و في رسالة ثاني الشهيدين أنّ في الاصطلاح لها تعريفين:

أحدهما: مشهور، و هو ذكر الإنسان حال غَيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصانا في العرف بقصد الانتقاص و الذم.

و الثاني: التنبيه على ما يكره نسبته إليه، قال: و هو أعم من الأول لشمول اللسان و الإشارة و الحكاية و غيرها، و هو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان.

قلت: قد صرح بذلك غيره أيضاً، و يؤيده ما روي عن عائشة (أنها قالت: دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأتُ بيدي أي: قصيرة، فقال (صلّى الله عليه و آله و سلم) اغتبتِها) (3)، بل المعلوم أن حرمتها بالقول باعتبار إفادته السامع ما ينقصه و يعيبه، و تفهيمه ذلك، و حينئذ فيعم الحكم كل ما يفيد ذلك من الكتابة التي هي أحد اللسانين، و الحكاية التي هي أبلغ في التفهيم من القول و التعريض و التلويح و غيرها، بل لعل التعريف الأول أيضا كذلك؛ ضرورة إرادة الأعم من القول بالذكر؛ إذ دعوى أنه بمعنى القول واضحة المنع (4)، انتهى.


1- السيوطي، الدر المنثور، 6/ 96.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 27.
3- السيوطي، الدر المنثور، 6/ 96.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 64.

ص: 164

و هو كما ترى إن أراد شمول الغيبة لذلك اسماً، لغة أو عرفاً، كما يقضي بذلك قوله (بل لعل التعريف الأول) كما أن منع انسباق (القول) من الذكر مما يرده الرجوع إلى العرف، و إن أراد شمولها لذلك حكما كما يقضي بذلك قوله: (بل المعلوم)، فهو مما لا بأس به كما عرفت، و يستفاد من كلام أهل اللغة أيضا اعتبار وجود العيب في المغتاب في صدق الغيبة، فإن كان العيب المذكور في المغتاب كان غيبة، و إن لم يكن فيه كان بهتاناً.

أقول: المفهوم من إطلاق الغيبة عرفا خلاف ذلك، بل هي عرفا ذكر العيب مع وجوده في المغتاب و عدمه، و لا ينافي ذلك ما في خبر مكارم الأخلاق المتقدم (1)، و ما روي أيضاً عنه (عليه السلام): (أنه ذكر عنده رجل فقالوا: ما أعجزه! فقال (صلّى الله عليه و آله و سلم): اغتبتم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) قلنا ما فيه، قال: إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه) (2)، لاحتمال أن يكون المراد من الخبرين أنكم إن قلتم ما فيه فقد اغتبتموه فقط، و إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه مع غيبته.

و كيف كان فالظاهر أن العرف أعم من اللغة في ذلك، و يستفاد من كلام جمع من أهل اللغة اعتبار غَيبة المغتاب في صدق الغيبة، بل هو صريح الصحاح و مجمع البحرين و نهاية ابن الأثير (3)، و هو المنساق من إطلاق الغيبة عرفا و المناسب للفظها، و لم يعتبر ذلك في القاموس و المصباح المنير (4)، كما سمعت المحكي في عبارتهما، و لعل إطلاقهما منزّل على ذلك، إما إحالة على العرف أو لكونه المفهوم من لفظها.

و كيف كان فذكر العيب مع الحضور ليس من الغيبة لغة و عرفاً و إن شارك الغيبة في التحريم بل أشد منها تحريما، و يستفاد من كلام بعض أهل اللغة كالمصباح المنير


1- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، 470.
2- العجلوني، كشف الخفاء، 2/ 81.
3- الجوهري، الصحاح، 1/ 96، الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 343، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 3/ 399.
4- الفيروزآبادي، القاموس، 1/ 112، الفيومي، المصباح المنير، 2/ 49.

ص: 165

و الصحاح و مجمع البحرين (1)، اعتبار كراهة المغتاب لو سمع ذلك في صدق الغيبة.

و الظاهر أن ذلك كناية عن كون المذكور سوءاً، و عليه تتفق كلمات أهل اللغة، و إلا فإرادة الكراهة الفعلية و الغم الفعلي لو سمع مما لا وجه له؛ ضرورة صدق الغيبة على ذكر معايب من لا يبالي فلا يغتم من شي ء و لا يكره شيئاً، اللهم إلا أن يريد ما من شأنه أن يكرهه و يغتمّ منه، فيعود إلى كون المذكور سوءاً، و من هنا يُعلم ألا مدار على الكراهة لو لم يكن المذكور سوءا كما لو كره شخص أن يقال في حقه عالم أو جواد، فإن ذلك ليس من الغيبة و إن شاركها في الحكم في بعض المقامات كما لو استلزم أذية المؤمن.

و كيف كان فالمراد مما يكره ما يكره إظهاره سواء كره وجوده كالبرص و الجذام أو لا كالميل إلى القبائح. و لو أريد مما يكره ما يكره وجوده، يشكل الحال في خروج بعض أفراد الغيبة عنها، فإن ذكر من يحب الزنا في الواقع بذلك غيبة قطعا مع أنها تخرج عن الموضوع، و ذلك مما لا يساعد عليه كلام أهل اللغة و لا العرف؛ و لهذا ترى أن صاحب الصحاح قال: (ما يغمه لو سمعه) و هو صريح في كراهة الإظهار دون كراهة الوجود.

و يستفاد من ظاهر كلام اللغويين و من قضية العرف اعتبار قصد الانتقاص في مفهوم الغيبة، أ لا ترى قول صاحب القاموس (غابه: عابه) بل عن رسالة ثاني الشهيدين إن في الاصطلاح تعريفين:

أحدهما: مشهور، و هو ذكر الانسان حال غَيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصانا في العرف بقصد الانتقاص و الذم (2)، فأَخذ قصد الانتقاص و الذم في تعريفها.

و على هذا فيخرج منها موضوعا ما يقصد به دفع الضرر عن المذموم في نفس أو عرض أو مال، و كذا الذم للتقية على الذام، و كذا الهزل و المزح و نحوهما لعدم قصد الانتقاص في جميع ذلك، و لعله من الأول ما وقع منهم (عليهم السلام) من المطعن


1- المصباح المنير، 2/ 49، الصحاح، 1/ 96، مجمع البحرين، 3/ 343.
2- الشهيد الثاني، رسائل الشهيد الثاني، 284.

ص: 166

في زرارة و الهشامين. و كيف كان على ما ذكر يخرج عن الغيبة موضوعا كل ما لا يقصد به انتقاص المستغاب.

و يستفاد من ظاهر كلام أهل اللغة و من قضية العرف أيضا اعتبار تعيين المستغاب عند السامع في تحقق موضوع الغيبة فمتى لم يكن (معيناً لم تكن) (1)، غيبةً سواء كان مردداً بين محصور أو غير محصور (و كان رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) إذا كره من أحد شيئا قال: ما بال أقوام يفعلون كذا و كذا) (2)، و يستفاد من عبارة الصحاح اعتبار المستورية في المستغاب به (3)، فمتى لم يكن مستوراً لم تكن غيبة، و تساعده على ذلك الأخبار المستفيضة، منها ما رواه العياشي بسنده عن ابن سنان (الغيبة: أن تقول في أخيك ما فيه مما قد ستره الله عليه) (4)، و رواية داود بن سرحان المروية في الكافي (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغيبة، قال: هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يُقَم عليه فيه حد) (5)، و رواية أبان (قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام) مَن ذكر رجلا من خلفه بما فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما لم يعرفه الناس فقد اغتابه) (6)، و حسَن عبد الرحمن (قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه) (7).

و على هذا تكون غيبة المتجاهر بالفسق خارجة عن الموضوع، و لعل المعتبر في الغيبة موضوعا كونها مما ينقص بها المستغاب عرفاً، فكل ما لم تكن كذلك لم تكن غيبة، فخرج عن الغيبة موضوعا غيبة المتجاهر كما عرفت و غيبة المجنون و الصبي غير


1- إضافة يقتضيها المقام.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 224، ابن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، 2/ 434.
3- الجوهري، الصحاح، 1/ 96.
4- العياشي، تفسير العياشي، 1/ 275.
5- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 357.
6- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 358.
7- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 358.

ص: 167

المميز و ما علمه السامع و المتكلم من الأوصاف القبيحة و الغيبة من دون مخاطب إلى غير ذلك.

و كيف كان فالغيبة هي ذكر الإنسان الغائب بسوء مع قصد نقصه و حصول النقص و لو عند السامع لاطلاعه على ما لم يعلمه، فجامع القيود المذكورة فهو منها موضوعا، و كل ما لم يجمع القيود المذكورة فليس منها موضوعا و إن شاركها حكما بل كان أشد منها تحريما كما ستعرف ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى.

هذا معناها عرفاً، و العرف هو الميزان مع اختلاف كلام أهل اللغة في التفسير و البيان كما لا يخفى.

الكلام في حرمة الغيبة

ثانيها: في حكمها،

و لا كلام في حرمتها للإجماع محصَّلا و منقولا، بل هي من الضروريات كما سمعت، و يدل على ذلك- بعد ما سمعت و بعد العقل القاطع لكونها من الظلم الذي يستقل العقل بحرمته- من الكتاب قوله تعالى: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) (1)، و منه قوله تعالى:

(لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ) (2)، و قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (3)، فإن الهمزة الطعّان في الناس، و اللمزة الذي يأكل لحوم الناس على ما حكاه بعض أصحابنا، و قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ) (4).

و من السنة الأخبار المستفيضة، منها ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم):

(إن الغيبة أشد من الزنا، و إن الرجل يزني فيتوب و يتوب الله عليه، و إن صاحب الغيبة لا يُغفر له حتى يغفر له صاحبه) (5)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (إنه خطب يوما فذكر الربا و عظّم شأنه فقال: إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم من ست و ثلاثين زنية، و إنّ أربى الربا عرض


1- حجرات، 12.
2- نساء، 148.
3- همزة، 1.
4- نور، 19.
5- المتقي الهندي، كنز العمال، 3/ 589.

ص: 168

الرجل المسلم) (1)، و منها ما روي عنه (عليه السلام): (من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله صلاته و لا صيامه أربعين صباحا إلا أن يَغفر له صاحبه) (2)، و منها ما روي عنه (عليه السلام): (من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنة، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب خالدا في النار و بئس المصير) (3)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (كذب من زعم أنه ولد (من) حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة، فاجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار) (4)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من مشى في عيب أخيه و كشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم) (5)، (إن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة، و إن لم يتب فهو أول من يدخل النار) (6)، (إن الغيبة حرام على كل مسلم) (7)، (و إن الغيبة لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (8)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (يؤتى بأَحَد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرب و يدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيه، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي، لا أرى فيه حسناتي، فيقال: إن ربك لا يضل و لا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثمّ يؤتى بآخر، و يدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي؛ فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: إن فلانا اغتابك، فتُدفع حسناته إليك) (9)، و منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة فيحفظها عليه، يريد أن يفضحه بها،


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 222.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 258.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، 164.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 259، و ما بين المعقوفتين إضافة من البحار.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 602.
6- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 222.
7- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 257.
8- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، 9/ 124، و ما في المستدرك (الحلفاء) بدل (الحطب).
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 259.

ص: 169

أولئك لا خلاق لهم) (1)، و منها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) أنه: (من قال في مؤمن ما رأته عيناه أو سمعته أذناه مما يشينه و يهدم مروّته فهو من الذين قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ)) (2)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (إن المغتاب يوم القيامة يأكل لحمه)، و منها ما روي عنه (صلّى الله عليه و آله و سلم): (لما رجم الرجل بالزنا، قال الرجل لصاحبه: هذا قعص كما يقعص الكلب (3)، فمر النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) معهما بجيفة فقال: انهشا منها، فقالا: يا رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) ننهش جيفة؟ فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه) (4).

إلى غير ذلك من الأخبار التي هي متواترة معنى المجبورة بما مر من الإجماع و الكتاب و العقل، و ظاهر الأدلة المذكورة كون الغيبة من الكبائر إن لم تكن من أكبرها، كما هو المحكي عن جماعة. كيف و بعضها من الكذب الذي هو من الكبائر، بل يمكن إرجاعها إلى الخيانة التي عدّها غير واحد من الأخبار من الكبائر، و أي خيانة أعظم من التفكّه بلحم الأخ على غفلة منه و عدم شعور، فما حكاه بعض من عاصرناه عن بعض من عاصره سماعا من الوسوسة في عدِّها من الكبائر مما لا وجه له (5)، خصوصا بعد أن دلت بعض الأخبار على خلود المغتاب في النار.

كلام في مستثنيات الغيبة

ثالثها: في المستثنيات،
اشارة

و هي أمور:

أحدها: غيبة من فسدت عقيدته حتى خرج عن ربقة الدين

و دخل في قسم الكفار و المشركين للأصل و الاقتصار على القدر المتيقَّن من دليل المنع؛ و لأن حديث


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 155.
2- نور، 19؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 155.
3- القعص هو القتل المعجّل.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، 9/ 120.
5- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 319.

ص: 170

هجاء المشركين يدل بالأولى على جواز غيبتهم؛ و لاستمرار السيرة و الطريقة على لعنهم و الطعن فيهم، بل حلية مجالس المؤمنين و نزهة الأبرار و المتقين ذكر معايب الكفار و المشركين، و ما دل من النصوص على المنع بلفظ الناس مقيد بمفهوم ما قصر فيه المنع على غيبة المؤمن و المسلم، و هو و إن كان مفهوما إلا أنه معتضد بما سمعت مع كونه أخص مطلقاً.

ثانيها: من فسدت عقيدته حتى خرج عن ربقة المؤمنين و دخل في قسم المخالفين.

قال بعض المتأخرين بعد أن جوّز هجاءهم (و أولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها في جميع الأعصار و الأمصار علمائهم و عوامهم حتى ملئوا القراطيس منها، بل هي عندهم من أفضل الطاعات و أكمل القربات، فلا غرابة في تحصيل الإجماع كما عن بعضهم، بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات فضلا عن القطعيات) انتهى (1).

أقول: لا شك أن ظاهر كلام الأصحاب في هذا الباب و في باب الهجاء (2)، لأنهم بين مصرح بالجواز و بين من يظهر منه ذلك، و كأن المنشأ في ذلك الأصل و ظواهر الأخبار؛ لأنها و إن وردت أكثرها بلفظ المسلم إلا أن المراد منه معنى المؤمن كما يقضي بذلك ذكر لفظ المؤمن في جملة منها، لا أقل من تقييد إطلاق المسلم بمفهوم المؤمن المعتضد بما سمعت، و لعلهم فهموا ذلك من لفظ الأخوة؛ لأن المخالف ليس من أخوة المؤمن، مضافاً إلى الأخبار المتضافرة الواردة بلعن المخالفين، و أنهم أشر من اليهود و النصارى و أنجس من الكلاب، فإنها تدل على الجواز صريحاً أو فحوىً كالنصوص المطلِقة للكفر عليهم و هي كثيرة جدا، فهي تدل من جهة الفحوى و من أن إطلاق الكفر عليهم حقيقة، إما لكفرهم حقيقة أو لمشاركتهم للكفار في أحكامهم إلا ما خرج بالدليل.


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 62.
2- في هذا الموضع نقص في العبارة.

ص: 171

و كيف ما كان (فهي (تدل على المطلوب. و مع هذا كله فالعجب من المولى الأردبيلي (قُدّسَ سرُّه) حيث قال في مجمع البرهان: (الظاهر أن عموم أدلة تحريم الغيبة من الكتاب يشمل المؤمنين و غيرهم؛ فإن قوله جل شأنه (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (1)، إما للمكلفين كلهم أو للمسلمين فقط لجواز غيبة الكافر، و كذا الأخبار فإن اكثرها بلفظ الناس و المسلم) (2)، إلى أن قال: (و كما لا يجوز أخذ مال المخالف و قتله لا يجوز تناول عرضه) (3)، ثمّ قال: (و ظني أن الشهيد في قواعده جوّز غيبة المخالف من جهة مذهبه و دينه لا غير) (4)، و كأنه مال إلى ذلك صاحب الكفاية (5).

أقول: و في جميع ما ذكر نظر واضح، أما دعوى عموم الآية و الأخبار فواضح المنع؛ لأن صدر الآية الشريفة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (6)، و المؤمن هو المؤمن الاثني عشري بالاصطلاح، و دعوى أن هذا الاصطلاح حدث بعد نزول الآية مما لا وجه له؛ لأن المؤمن حين نزول الآية هو مَن كان مِن الفرقة الناجية، و الفرقة الناجية الاثني عشرية قطعا، على أن آخر الآية (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) (7)، و لا أخوة بين المؤمن و المخالف. كيف و من المعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (8)، و كيف يُتَصوّر الأخوة بين المؤمن و المخالف بعد تواتر الروايات و تضافر الآيات في وجوب معاداتهم و البراءة منهم، بل هم أعداء الله،


1- حجرات، 12.
2- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان، 8/ 76.
3- المصدر نفسه، 8/ 78.
4- المصدر نفسه، 8/ 78، و ما في المجمع يختلف كليا عما في المخطوطة.
5- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 86.
6- حجرات، 12.
7- حجرات، 12.
8- حجرات، 10.

ص: 172

فكيف يكونون للمؤمنين إخوة؟، ففي الخبر المذكور في معاني الأخبار أن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) أشار إلى علي (عليه السلام) و قال: (ولي هذا ولي الله فوالِه، و عدو هذا عدو الله فعادِه) (1)، و أما الأخبار فما ورد منها بلفظ الناس و المسلم يجب تقييده بما ورد بلفظ المؤمن كما عرفت ذلك، و أما قوله: (كما لا يجوز أخذ ماله و قتله لا يجوز تناول عرضه) (2)، ففيه أن تحريم الأوليين لعله للإجماع، فقياس العرض عليها مما لا وجه له. أ لا ترى أن الكافر لو دفع الجزية حرم ماله مع جواز غيبته.

و لعلنا نقول بحليتهما عند الأمن و عدم التقية جريا على الأخبار الدالة على كفرهم و الأخبار الدالة على أخذ مال الناصب و هي كثيرة، و قد فُسّر الناصب في جملة من الأخبار بمن قدّم الجبت و الطاغوت و من نصب للشيعة. فنقول حيثما أطلق الناصب في الأخبار يراد منه المخالف غير المستضعف، و لعله على ذلك (3)، الخواجة نصير الدين و آية الله في العالم حيث فعلوا ما فعلوا في سلطنة الشاه إسماعيل، و أما ما حكاه عن الشهيد في قواعده فلم نعثر منه إلا على قول الشهيد في ما استثناه (أن يكون المقول فيه مستحقا لذلك لتظاهره بسبه كالكافر و الفاسق المتظاهر ليذكره بما هو فيه لا بغيره)، و قال في مقام آخر (الخامس: ذكر المبتدعة و تصانيفهم الفاسدة و آرائهم المضلة و ليقتصر على ذلك)، و هو كما ترى لا دلالة فيه على ما ادّعاه (رحمه الله) لاحتمال أن يراد بالفاسق في العبارة الأولى الموالي من الفسقة و أن يراد بالمبتدعة فرق الشيعة بالعبارة الثانية.

و كيف ما كان فجواز غيبتهم أوضح من أن يذكر، هذا مع أن الخطابات القرآنية خاصة بالمشافهين و لا تتعدى إلى الغائبين إلا بدليل و هو في الغالب الإجماع و لا إجماع على الشركة إلا مع اتحاد الوصف، و لا ريب في تغايره فلا شركة، فيرجع في حكم غيبتهم إلى الأصل بعد فرض عدم دلالة الأخبار على الجواز. كيف و هي


1- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، 37.
2- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان، 8/ 78.
3- كلمة غير مقروءة.

ص: 173

صريحة في ذلك، لا أقل من أن يكون جواز غيبتهم لتجاهرهم بالفسق؛ فإن ما هم عليه أعظم أنواع الفسق بل الكفر و إن عوملوا معاملة المسلمين في بعض الأحكام للضرورة أو للإجماع، و ستعرف إن شاء الله أن المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في ما تجاهر فيه و في غيره.

ثالثها: عدّ بعض أصحابنا من المستثنيات تظلّمَ المظلوم عند من يقطع بإعانته له،

إما برفع الظلم عنه أو بإعانته له بماله أو بوصول الخبر إلى الظالم فيرفع عنه الظلم لذلك، أو عند من يرجو في التظلّم عنده حصول أحد الثلاثة المذكورة و إن لم يقطع بذلك؛ و ذلك للسيرة القطعية المأخوذة يدا بيد من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى زماننا هذا؛ و لظاهر قوله تعالى: (وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (1)، و قوله تعالى: (لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ) (2)، فعن تفسير القمي أي لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم و السوء و يَظلم إلا من ظُلم (3)، و لقول هند للنبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (إن ابا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني و ولدي) (4)، و لرواية أبي البختريّ: (ثلاثة ليس لهم حرمة .. إلى أن قال: و الإمام الجائر و الفاسق المعلن بفسقه) (5)، فإن الظاهر أن عدم احترامه لجوره؛ و لهذا جعله في مقابلة الفاسق المعلن بفسقه، و يؤيد ذلك أن في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع تشفٍّ في الظالم حرج عظيم؛ و لأن في مشروعية الجواز مظنة ردع الظالم عن ظلمه، و يؤيد ذلك أيضا النبوي المعروف و هو قوله (ص): (لصاحب الحق مقال)، و هذه الأدلة و إن كانت مطلقة، لكن لا بد من تقييدها بالتظلّم عند من يرجو إزالة ظلمه بالتظلّم عنده بأحد الطرق المتقدمة اقتصاراً على القدر المتيقَّن في ما خالف الأصل الثابت


1- شورى، 41- 42.
2- نساء، 148.
3- علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، 1/ 157.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 231.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 605.

ص: 174

بالأدلة العقلية و النقلية المتقدمة و هو تحريم الغيبة.

و صرح بذلك جمع من أساطين أصحابنا (رحمهم الله) كما أن جمعا منهم صرحوا بالجواز مطلقا من غير فرق بين التظلّم عند من يرجو زوال ظلمه بالتظلّم عنده و بين غيره، فلو كان الظلم غير قابل للتدارك أو المتظلّم عنده غير قابل للتدارك فلا منع استنادا إلى إطلاق الآية المفسَّرة بما سمعت، و بما رواه في محكيّ مجمع البيان عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها: (إنه لا يحب الشتم في الانتصار إلا من ظُلم، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه ممن يجوز الانتصار به في الدين) (1)، و قال في المجمع (و نظيره (وَ انتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)) (2).

أقول: لا وجه للاستناد إلى إطلاق الأدلة المذكورة بعد إدخال التظلّم في موضوع الغيبة؛ لأنه حينئذ يلزم الاقتصار على القدر المتيقَّن في ما خالف أدلة التحريم في غير الإطلاقات، و الإطلاقات منصرفة إلى الفرد الظاهر و هو الظالم المتجاهر بالظلم. نعم يمكن دعوى خروج التظلّم الذي هو مورد الأدلة المذكورة من الموضوع بدعوى أنها منصرفة إلى التظلّم من الظالم المتجاهر بظلمه. و قد عرفت أن المتجاهر بالفسق لا يدخل ذكره بالسوء في موضوع الغيبة، فحينئذ لا فرق في ذلك- بعد فرض تجاهره بالظلم- بين التظلّم عند من يُرجى لزوال الظلم و بين التظلّم عند غيره، و أما من لم يتجاهر بالظلم فدعوى جواز غيبته أول الكلام و لو عند من يُرجى لزوال الظلم، اللهم إلا أن يُدّعى انعقاد الإجماع على ذلك، فحينئذ الظالم متجاهر و متستّر، و المتستّر مرة يَعلم المتظلِّم عنده بظلمه و مرة لا يعلم، فالأدلة المتقدمة منزَّلة على المتجاهر أو على من يعلم المتظلِّم عنده بظلمه و إن كان متستّراً، و كلاهما خارجان عن موضوع الغيبة.


1- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، 3/ 225.
2- المصدر نفسه، 3/ 225، شعراء، 227.

ص: 175

و هنا أخبار وردت لا بد من طرحها أو تأويلها، منها ما رواه العيّاشي في تفسيره عنه (عليه السلام): (من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلَم فلا جناح عليهم في ما قالوا فيه) (1)، و ما رواه في المجمع (إن الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكر ما فعله) (2)، فلا بد في الخبرين المذكورين حمل الإساءة على كونها ظلما و هتكا لاحترامهم، أو أن ما يذكرونه فيه ليس من الغيبة.

و كيف كان فعلى القول باستثناء التظلّم من حكم الغيبة، لا بد من الاقتصار على خصوص ظلم الظالم، بل على خصوص ما ظلمه به، فلا يجوز التعدّي عن ذلك اقتصارا على القدر المتيقَّن في ما خالف الأدلة العقلية و النقلية المتقدمة، كما أن الظاهر عدم جواز سماع التظلّم قبل تحقق الظلم، و لا تكفي دعواه في ذلك إلا إذا أفادت القطع.

رابعها: عدّ بعض أصحابنا (رحمه الله) من المستثنيات غيبة المتجاهر بالفسق

استنادا إلى بعض الأخبار التي منها خبر هارون بن الجهم (إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة) (3)، و قوله (عليه السلام): (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) (4)، و خبر أبي البختريّ (ثلاثة ليس لهم حرمة .. إلى أن قال:

و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن بفسقه) (5)، و مفهوم قوله (عليه السلام): (من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروّته و ظهرت عدالته، و وجبت أخوّته، و حرمت غيبته) (6)، و في خبر ابن أبي يعفور (و الدليل على ذلك أن يكون ساترا


1- العيّاشي، تفسير العياشي، 1/ 283.
2- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، 3/ 225.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، 93.
4- ابن شعبة، تحف العقول، 45.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 605.
6- الشيخ الصدوق، الخصال، 208، و ما بين المعقوفتين إضافة من الخصال و بقية الكتب التي روت الحديث.

ص: 176

لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته) (1)، و مفهوم رواية علقمة (من لم تره بعينك يرتكب ذنبا، و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا، و من اغتابه بما هو فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى، و داخل في ولاية الشيطان) (2)، و مقتضى إطلاق الأخبار جواز اغتيابه و إن لم يقصد بذلك ردعه عن المنكر، و لم نعثر على من اعتبر ذلك في جواز اغتيابه.

نعم، اعتبر ذلك بعض أصحابنا في جواز سبّه مع اعترافه بأن ظاهر النص و الفتوى عدم اعتباره. و هل يجوز اغتيابه في غير ما تجاهر به مطلقا أو لا يجوز مطلقاً؟، أو يفصّل بين ما كان دون ما تجاهر به في القبح فيجوز، و بين ما يكون فوقه في القبح فلا يجوز؟ وجوه بل أقوال، ينظر الأول منها إلى إسقاط حرمته و نفي غيبته مطلقا في الأخبار المتقدمة و مفهوم صحيحة ابن أبي يعفور و سابقتها و لاحقتها، و ينظر الثاني إلى الاقتصار على القدر المتيقَّن في ما خالف أدلة التحريم، و إن حرمته إنما سقطت في ما تجاهر به دون غيره، و ينظر ثالثها إلى أن حرمة الغيبة إنما نشأت من هتك عرض المؤمن، و هو إنما يحصل في ما زاد على ما تجاهر به قبحا دون ما نقص عنه، فمن تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرض للنساء الأجانب، و من تجاهر بقطع الطريق جاز اغتيابه بالسرقة، و على ذلك القياس.

و المراد من المتجاهر من تجاهر بعنوان أنه فسق أو معصية، فلو تجاهر به بعنوان أنه طاعة كان من أعمال الظلمة، و لكن يدّعي أن الباعث على ذلك التقية أو حفظ نفوس بعض المؤمنين و غير ذلك من الأمور المسوّغة لذلك، فالظاهر أنه ليس من المتجاهر، اللهم إلا أن يُعلم أن عذره واضح الفساد، فالظاهر كونه من المتجاهر حينئذ، و لو تجاهر في الفسق في زمان دون آخر أو في بلدة دون أخرى فالظاهر لزوم الاقتصار على غيبته في الزمان و المكان الذين تجاهر بهما؛ لأن الظاهر من الأدلة أن


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 6/ 241.
2- الشيخ الصدوق، الأمالي، 164.

ص: 177

جواز غيبة المتجاهر من حيث عدم اكتراثه بنسبة ذلك إليه، و حكاية ذلك عنه لتجاهره به، و حيث يكون المدار على ذلك يلزم الاقتصار على ما ذكرناه.

و لقائل أن يقول بالجواز مطلقا استنادا إلى إطلاق الأدلة، و لكن الاحتياط لا يخفى، خصوصا بعد أن كان الأصل في المؤمن الاحترام مطلقا، فيلزم المؤمن الاقتصار على المتيقَّن في ما خالف الأصل، و حكى بعض المعاصرين عن بعض الأصحاب القول بجواز غيبة الفاسق مطلقا، متجاهرا أو لا استناداً إلى قوله (صلّى الله عليه و آله و سلم):

(لا غيبة لفاسق) (1)، و هو كما ترى، فلا بد إما من حمله على الفاسق المتجاهر أو على (2) كان بعيداً.

خامسها: عدّ بعض أصحابنا من المستثنيات الاستفتاء،

و استدل على ذلك بقول هند زوجة أبي سفيان (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني و ولدي) (3)، مع عدم إنكار النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) غيبة أبي سفيان، و هو كما ترى. أما أولا فلأنها متظلِّمة، فتخرج عن عنوان الاستفتاء إلى عنوان التظلّم، و أما ثانيا فلأن أبا سفيان متجاهر بالفسق، فلعل عدم الإنكار لذلك، فلا دلالة في الخبر المذكور على جواز الاغتياب في الاستفتاء، و استدل بعض أصحابنا على ذلك بخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس، فقال احبسها، قال: قد فعلت، فقال ص:

امنع من يدخل عليها، قال: فعلت: قال: فقيّدها؛ فإنك لا تبرّها بشي ء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله عز و جل) (4).

و فيه أن الخبر المذكور ظاهر في تجاهرها بذلك، و دعوى المستدل- احتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل- مردودة بظهور الخبر في تجاهرها بذلك، و ربما استدل


1- العلامة المجلسي بحار الأنوار، 72/ 233.
2- كلمة غير مقروءة.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 231.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 18/ 415، و ما بين المعقوفتين إضافة من الوسائل.

ص: 178

بعض أصحابنا بالسيرة و الطريقة، و الظاهر أن دعوى السيرة على الجواز مطلقا حتى في مقام لا يتوقف الاستفتاء على ذكر الغير في غاية الإشكال.

فالتحقيق أن يقال: إن المستفتي إن كان مظلوماً، و كان الاستفتاء متضمنا للتظلّم فلا كلام، و مثله ما كان المذكور متجاهراً بالفسق، و إن لم يكن كذلك فإن توقف الاستفتاء على ذكر الغير أمكن القول بالجواز للسيرة و العسر و الحرج بدون ذلك، و إن لم يتوقف فالقول بالجواز في غاية الإشكال؛ لأصالة حرمة هتك حرمة المؤمن المستفادة من الأدلة المتقدمة المعتضدة بما سمعت من المؤيدات و الله العالم.

سادسها: عدّ بعض أصحابنا من المستثنيات تحذير المؤمن من الوقوع في الضرر الدنيوي و الديني

كتحذير الناس من الرجوع إلى غير الفقيه مع ظهور عدم قابليته و التعويل على طريقة من يعلم فساد طريقته و أهل التحصيل في بعض القواعد التي تعد من الأباطيل، و أما أهل البدع فقد ورد الأمر بالوقيعة فيهم.

أقول: و ذلك للأخبار المتكثّرة الدالة على وجوب نصيحة المؤمن التي منها خبر عيسى بن أبي منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه) (1)، و خبر معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد و المغيب) (2)، و خبر أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة) (3)، و خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله ص: لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه) (4)، و خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه) (5)،


1- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 208، و ما بين المعقوفتين إضافة من الكافي.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 208.
5- المصدر نفسه.

ص: 179

و خبر سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (عليكم بالنصح لله في خلقه؛ فلن تلقاه بعمل أفضل منه) (1)، و خبر عطاء بن يزيد عن تميم قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): الدين النصيحة، قال: لمن يا رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم)؟ قال لله و لرسوله و لأئمة الدين و لجماعة المسلمين) (2)، إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على وجوب نصيحة المؤمن مع السبق بالاستشارة و عدمه، و دعوى ظهورها في سبق الاستشارة كما ترى.

سابعها: عدّ بعض أصحابنا من المستثنيات نصح المستشير؛

للأخبار المتقدمة و لما رواه عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله عز و جل رأيه) (3)، و لقول النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لفاطمة بنت قيس لما شاورته في خُطّابها: (معاوية صعلوك لا مال له، و أبو الجهم لا يضع العصا عن عاتقه) (4)، قال بعض المعاصرين قلت: لعل هذا و سابقه راجع إلى نصح المؤمن الذي أُمر به في النصوص من غير فرق بين سبق الاستشارة و عدمها. لكن التعارض بين ما دل على حرمة الغيبة و بينها من وجه، و لعل الترجيح لها، إلا أنه على إطلاقه لا يخلو من إشكال. فالمتجه مراعاة الميزان في الموضوعات مع المحافظة على مقدار ما يتوقف عليه النصح من غير تعدٍّ و تجاوز، بل يمكن عند التأمل عدم كون ذلك من التعارض في الأدلة، و إلا فمقتضى ذلك التعارض بين أدلة المستحبات و المباحات و أدلة المحرمات. و من هنا كان المتجه الاقتصار في هذا الباب على خصوص ما جرت السيرة به و ما دلت عليه الأدلة المخصوصة لا مطلقا و إن أوهمته بعض العبارات استنادا إلى ما ورد في نصح المؤمن المعلوم كونه من قبيل ما ورد في قضاء حاجة


1- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 208.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 11/ 595.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 363.
4- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، 6/ 413.

ص: 180

المؤمن (1)، لا يراد منه الأفراد المحرمة أو المستلزمة لها فتأمل جيدا و الله أعلم) (2)

انتهى.

أقول: يظهر من قوله (بل يمكن عند التأمل) إلى آخر عبارته أن نصح المؤمن مستحب كقضاء حاجته، و أنّ أدلة النصح كأدلة قضاء الحاجة تدل على الاستحباب.

و فيه أن الأخبار المتقدمة ظاهرة في الوجوب إن لم تكن صريحة فيه. لتعبير أكثرها بلفظ (يجب) كما سمعت هذا، مضافا إلى قوله (عليه السلام): (المؤمن مرآة أخيه) (3)، و إلى أن تركها خيانة، و هي من أعظم المحرمات، و بعد فرض دلالتها على الوجوب لا وجه لعدم عدّ ذلك من التعارض، و اقتضاء ذلك التعارض- في أدلة المستحبات و المباحات و المحرمات- ممنوع، فحينئذ يكون التعارض بين ما دل على وجوب نصح المؤمن و ما دل على حرمة الغيبة عموم و خصوص (من) (4) وجه، فلا بد من الرجوع إلى المرجّحات كما هو الدأب في دليل الوجوب و التحريم لو تعارضا كذلك.

نعم، دعوى كون الترجيح لدليل الوجوب مطلقاً مشكل بل لا بد من الرجوع إلى الميزان في الموضوعات كما يقول. نعم، أدلة المستحبات لا تقاوم أدلة المحرمات خصوصا التي تكون من مقدماتها، فإن مرجع أدلة الاستحباب إلى استحباب ايجاد الشي ء بسببه المباح لا بسببه المحرم، أ لا ترى أنه لا يجوز إدخال السرور في قلب مؤمن و إجابته بالمحرمات كالزنا و اللواط و الغناء، و السر في ذلك أن دليل الاستحباب إنما يدل على كون الفعل لو خلّي و طبعه خاليا عما يوجب لزوم أحد طرفيه فلا ينافي ذلك طروّ عنوان من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه، كما إذا صار مقدمة لواجب أو صادفه عنوان محرم، فإجابة المؤمن و إدخال السرور في قلبه ليس في نفسه شي ء ملزم لفعله أو تركه، فإذا تحقق في ضمن الزنا فقط طرأ عليه عنوان ملزم لتركه، كما إذا أمر به الوالد أو السيد طرأ عليه عنوان ملزم لفعله.


1- العبارة هنا غير مستقيمة في الأصل و الجواهر.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 67، و ما بين المعقوفتين إضافة يقتضيها السياق.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 548.
4- إضافة يقتضيها السياق.

ص: 181

و الحاصل إن جهات الأحكام الثلاثة، أعني الإباحة و الاستحباب و الكراهة لا تزاحم جهة الوجوب أو الحرمة، فالحكم لهما مع اجتماع جهتهما مع إحدى الجهات الثلاث بخلاف جهة الوجوب فإنها تزاحم جهة التحريم، و في مقام تعارض أدلة الوجوب و التحريم يُرجع إلى المرجّحات، و دعوى أن دليل التحريم أرجح مطلقا من جهة أنه دفع مفسدة كلام لا معنى له، فحينئذ إن أراد بقوله (استناداً إلى ما ورد في نصح المؤمن المعلوم كونه من قبيل ما ورد في قضاء حاجة المؤمن لا يراد منه الأفراد المحرمة أو المستلزمة لها) (1)، أن نصح المؤمن مستحب كقضاء حاجته فهو كما عرفت، و إن أراد أنه و إن دلت أدلة النصح على الوجوب- إلا أنه من قبيل تلك الأدلة في عدم إرادة الأفراد المحرمة منه لترجيح دليل التحريم على دليل الوجوب- فهو على إطلاقه مما لا وجه له، بل ينبغي الرجوع إلى الميزان في الموضوعات كما قاله هو أولا.

و كيف كان فلو رجحنا دليل الوجوب كما هو الظاهر فلا يلزم الناصح تحري ما لا غيبة فيه من النصح، بل لو كان له في النصح طريقان، أحدهما يستلزم الغيبة و الآخر لا يستلزمها جاز له سلوك أيهما شاء، كما لو كان له طريقان، أحدهما أقل غيبة من الآخر. نعم، لا يجوز له في ما يسلكه من الطريق الزيادة على ما يحصل به النصح.

و هل يتوقف النصح غير المسبوق بالاستشارة على القطع بسلوك جادة الضرر أو يكفي الظن و الاحتمال؟ لا أستبعد الثاني. و لا يعتبر في وجوب النصيحة القطع بالقول، بل يكفي الظن و الاحتمال. و هل تجب مع القطع بعدم القبول؟.

الظاهر العدم، و لا فرق بين الضرر النفسي و المالي و العرضي كما يقضي بذلك إطلاق الأدلة. نعم يختلف الضرر المالي باختلاف الأشخاص، فلا بد من مراعاة النسبة (2).

ثامنها: من المستثنيات الجرح للشاهد و الراوي

و بيان مقدار حالهما لمعرفة المعادلة بين خبره و خبر غيره و بين شهادته و شهادة غيره، و لذلك وضعت كتب


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 67.
2- إضافة من البحار.

ص: 182

الرجال و التعديل و قسّمت الأخبار إلى الأقسام المشهورة، و على ذلك جرت عادة السلف من أهل الحق و أهل الباطل لا يتناكرون ذلك من الرواة و المحدّثين و الفقهاء و المجتهدين، و لو لا ذلك لم يكن الترجيح بالعدالة و خلافها و الأعدلية و خلافها و انسد طريق الاجتهاد، و من هذا الباب تعذّر ترجيح البينات عند المرافعات، و قد ورد عنهم (عليهم السلام) ذم بعض الرواة و نسبة الكذب إليهم و وضع الحديث.

و كيف كان لو لا ذلك لضاعت الحقوق في الدماء و الأموال و غيرها، و ذلك مما يرجح ما دل على وجوب إقامة الشهادة على ما دل على حرمة الغيبة؛ لأن بين الدليلين عموم من وجه.

تاسعها: ما يقصد به دفع الضرر عن المذموم في عرض أو دم أو مال،

و بنحو ذلك يجاب عن الطعن في زرارة و الهشامين كما بيّن ذلك الإمام (عليه السلام) بقوله في بعض ما أمر به عبد الله بن زرارة تبليغ أبيه (أقرأ مني على والدك السلام فقل له إنما أعيبك دفاعا مني عنك؛ فإن الناس يسارعون إلى كل من قرّبناه و حمدناه لإدخال الأذى في من نحبه و نقرّبه و يذمونه لمحبتنا له و قربه و دنوّه منا و يرون إدخال الأذى عليه و قتله، و يحمدون كل من عيّبناه نحن (و أن يحمد أمره)، و إنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت منا بميلك إلينا و أنت في ذلك مذموم غير محمود الأثر بمودتك لنا و لميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك و نقصك، و يكون ذلك منا دافع شرهم عنك، يقول الله عز و جل (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكٰانَتْ لِمَسٰاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهٰا وَ كٰانَ وَرٰاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (1)، هذا التنزيل من عند الله، لا و الله ما عابها إلا لكي تَسلم من الملك و لا تُغصب على يديه، و لقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ، و الحمد لله، فافهم المثل (رحمك الله) فإنك أحب الناس إليّ و أحب أصحاب أبي إليّ حيا و ميتا، و إنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، و إن وراءك لملكا ظلوما غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصبا، و يغصب أهلها، فرحمة الله عليك (حيا) و رحمة الله عليك ميتاً) (2)، الخبر.


1- كهف، 79.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 2/ 247.

ص: 183

و لكن لا يخفى عليك أن هذا و شبهه غير داخل في موضوع الغيبة بعد ما عرفت من اعتبار قصد الانتقاص فيها.

عاشرها: ذكره بالاسم المعروف و الصفة المعروفة كالأعرج و الأعمش و الأشتر

و نحوها لضرورة التعريف كما جرت عليه عادة العلماء في ذكر الرواة و المحدِّثين، فالسيرة و الإجماع المحصَّل و الأخبار شاهدة له، و قد ورد في كثير من الأخبار ذلك، و في الحديث (جاءت زينب الطاهرة الحولاء إلى نساء رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم)) (1)، و لا بأس في ذلك في ما إذا صارت الصفة مشهورة بحيث لا يكره صاحبها وصفه بها، و لعله على ذلك تُنزَّل الأدلة المذكورة، و استثناء ذلك مبني على عدم اعتبار قصد الانتقاص في الغيبة، و قد عرفت أنه معتبر، بل قد عرفت أنه يعتبر في موضوع الغيبة المستورية، و هذا ليس من العيوب المستورة.

و كيف كان فلا يستلزم ذلك جواز الغيبة بالأوصاف الظاهرة مما لم يشتهر وصفه بها كالعور و العرج و القصر و نحوها و على ذلك يُنزّل قول النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لعائشة لما أشارت إلى قصر الامرأة إنك اغتبتها (2).

نعم، قد يقال بجواز ذكر الأوصاف المذكورة عند العالم بها كغيرها من العيوب المعلومة بين المتكلم و المخاطب، فإنه قد يُشك في شمول أدلة المنع لمثله باعتبار عدم حصول أمر جديد، و الأحوط الترك خصوصا مع احتمال النسيان، و مع القطع به فالأقوى عدم الجواز.

حادي عشرها: الشهادة لإقامة الحدود و حفظ الدماء المعصومة و الأموال المحترمة

لئلا تضيع الحقوق و يغلب الباطل على الحق؛ لأن المفسدة في ترك إقامة الحدود أعظم من المفسدة في الغيبة.

ثاني عشرها: ما دخل في النهي عن المنكر لتوقفه عليه،

فيجب الوقيعة في بعض العصاة ليرتدعوا عما هم عليه من المعصية.


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 151.
2- السيوطي، الدر المنثور، 6/ 96، باختلاف في الألفاظ.

ص: 184

ثالث عشرها: نفي نسب من ادّعى نسبا و إن كان معذورا أو عرف بنسب،

فيجوز تقيةً، و ربما وجب حتى لا يقع خلل في المواريث و النفقات و الأنكحة و غيرها، و يمكن إرجاعه لبعض ما تقدم.

رابع عشرها: التقية على نفس المستغيب أو على عرضه أو ماله،

أو على نفس مؤمن أو عرضه أو ماله، كما يجوز الهجاء و الشتم و السب و جميع أنواع المعاصي عدا الدماء.

خامس عشرها: ذكر المبتدعة و تصانيفهم و معائبهم و نقائصهم

حذرا من ميل الناس إليهم و وقوع العباد في الفساد.

سادس عشرها: ذكره عند من اطّلع على حاله و لم يزده الذكر علما

لعدم حصول أمر جديد يصلح علة للمنع فيشك في دخوله تحت أدلة المنع، بل قد عرفت عدم دخوله تحت أدلة الغيبة لاعتبار حصول النقص فيها و لو عند السامع لاطّلاعه على ما لم يكن مطّلعا عليه فراجع و تأمل.

و قد ذكر جدي (قُدّسَ سرُّه) في شرحه على القواعد جملة من المستثنيات قال: منها ذكر بعض الصفات الذميمة التي لا تبعث على فسق مع تظاهره بها على رءوس الأشهاد لهتك حرمة نفسه، و قوله (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من ألقى جلباب الحياء عن نفسه فلا غيبة له) (1)، و لأنه كالذكر عند العالِمين بالحال. و منها: تفضيل بعض الرواة و العلماء على بعض لتقديم المقدَّم في التقليد و الرواية و تأخير المؤخّر، بل مطلق التفضيل؛ لأنه ليس بقدح. و منها: ذكر من لا عقل له و لا تمييز كالمجانين و بعض الأطفال من المؤمنين للشك في الدخول تحت أدلة التحريم. و منها: الرد عليه في ذكر قدح عليه أو على المؤمن، فإنه يجوز و لو كان معذورا و استلزم قدحا فيه. و منها: ما لو فعل خيرا من عبادة أو إكرام ضيف أو ترحّم على فقير و نحوها فدلت على بخل أو كسل أو نقصان غيره، فإنه لا يلزمه ترك العبادة و نحوها لذلك مع أنه من أقسام الغيبة على بعض التفاسير. و منها: ذكر أولاده و عياله و أتباعه و الملتحقين به ببعض الصفات تأديباً لهم و خوفاً عليهم من الوقوع في ما هو أعظم؛ لقضاء الحكمة


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 45.

ص: 185

و السيرة؛ و لأن التابع و القريب لهما حكم آخر في التأديب كما يظهر من التتبُّع. و منها: ذم من لا يشخِّصه و لا يميّزه و لا يحصره، فإنه لا بأس به و إن دخل تحتها. و منها تعليق الذم بطائفة أو أهل بلاد أو قرية مع قيام القرينة على عدم إرادة الجميع كذم العرب و العجم و أهل الكوفة و البصرة و بعض القرى. و منها: ذكر المعايب و المناقص في شخص ثمّ يُعقبها بما يدل على رجوعه و عود كماله كالنقل عن الحر و أضرابه.

و منها روايتها عن شخص و تكذيبه في نقله لها، فلو سمّينا الناقل مغتابا و النقل غيبة لم يدخل في المنع. و منها: ذكر عيوب المملوك لإسقاط الخيار. و منها: ذكر عيوب المرأة في النكاح خوفا مما يترتب على التدليس (1) انتهى.

و لا يخفى أن جملة مما ذكره (رحمه الله) خارج عن الموضوع فلا ينبغي عدُّه من المستثنيات.

و كيف كان، فحيث كان المستفاد من الأخبار أن حرمة الغيبة إنما هي لانتقاص المؤمن و أذيته، فإذا فرض وجود مصلحة للغيبة تعود للمستغيب أو للمستغاب أو إلى ثالث من المؤمنين قد دل العقل أو النقل على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك غيبته وجب اتباع أقوى المصلحتين كما هو القانون في كل معصية من حقوق الله أو من حقوق الناس. قال في محكي جامع المقاصد (إن ضابط الغيبة المحرمة كل فعل يُقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس منه، و أما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم) (2)، و قال في محكي كشف الريبة (اعلم أن المرخَّص في ذكر مساوئ الغير غرض صحيح (في الشرع) لا يمكن التوصل إليه إلا بها) (3)، فإذا كان كذلك فالمستثنيات لا تنحصر في عدد و لا تنتهي إلى حد بل هي موكولة إلى نظر الفقيه في ترجيح المصلحة كما لا يخفى.


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 52- 53.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 27.
3- الشهيد الثاني، كشف الريبة، 41.

ص: 186

رابعها: في استماع الغيبة،
اشارة

و هو محرم باتفاق أصحابنا، و الأخبار بذلك مستفيضة منها ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (المستمع أحد المغتابين) (1)، و منها ما روي عن علي (عليه السلام): (السامع للغيبة أحد المغتابين) (2)، و المراد من السامع: المستمع لعدم تصور الحرمة في السامع اتفاقاً. و منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (نهى رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) عن الغيبة و الاستماع إليها) (3)، إلى غير ذلك من الأخبار المعتضدة بالإجماع المحصَّل فضلا عن المنقول نقلا مستفيضا كاد أن يكون متواترا، بل ربما دل الخبران المتقدمان على كونه من الكبائر لاقتضائهما كون المستمع مغتابا و الغيبة من الكبائر كما عرفت.

نعم، قال بعض المعاصرين: إلا أن ما يدل على كونه من الكبائر كالرواية المذكورة و نحوها ضعيفة السند (4)، انتهى. و قد عرفت اعتضادها بما سمعت، فلا وجه للطعن في سندها بعده. و كيف كان فالحكم مما لا كلام فيه، و إنما يقع البحث هنا في أشياء:

أحدها: الظاهر جواز استماع الغيبة للرد على المستغيب فيما لو توقف الرد على الاستماع،

لأن المفسدة في ترك الرد أعظم من المفسدة في استماع الغيبة. و لو لم يتوقف الرد على الاستماع فالظاهر عدم جوازه.

ثانيها: لم أرَ من أصحابنا من تعرض لحكم النظر إلى الإشارة و الكتابة

و حكاية الأفعال لو عممنا الغيبة لها و أنها بحكم الاستماع أو لا؟ و تُبنى المسألة على أن حرمة الاستماع تعبّدية أو أنها لهتك حرمة المؤمن، فعلى الأول لا يعم الحكم ما ذكرناه بل هو باق على أصالة الجواز و الاباحة، و على الثاني يعم الحكم ما ذكرناه من النظر إلى تلك الأمور، و يكون الاستماع في الأخبار كناية عن الاطلاع على عورة المؤمن،


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 72/ 226.
2- المصدر نفسه، 72/ 226.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 599.
4- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 359.

ص: 187

و على التقديرين يلزم النهي عن هذه الأفعال لأنها محرمة، و لزوم النهي عنها لا يستلزم حرمة النظر إليها.

ثالثها: الظاهر أن حرمة الاستماع مخصوصة بالغيبة المحرمة،

و أما المحللة فمنها ما يجوز استماعها جزما كالتظلّم و الاستفتاء، و كذلك لو كان الفاسق متجاهراً بالفسق عند المتكلم و السامع، أما لو كان متجاهراً عند المتكلم دون السامع ففي جواز استماع غيبته وجهان، يمكن القول بحرمة الاستماع هنا و إن جاز للمتكلم التكلم؛ لأن الأخبار جعلت السامع أحد المغتابين، فكما يحرم على المتكلم الغيبة إلا إذا كان متجاهراً عنده فكذا يحرم على السامع الاستماع إلا إذا كان متجاهراً عنده لأن السامع بحكم المتكلم كما هو صريح قوله (عليه السلام): (أحد المغتابين) و يمكن القول بالجواز؛ لأنه قول غير منكر فلا بأس باستماعه، و لأصالة الإباحة، و لأن معنى قوله (عليه السلام): (المستمع أحد المغتابين)، أن المستمع لغيبته كقائلها، فكما أن قائلها ليس بعاص فمستمعها كذلك، فتكون الأخبار المتقدمة دليلا على الجواز.

نعم، لو كان معنى الأخبار أ لا تسمع لغيبة كما لو تكلم بها، فإن جاز له التكلم بها جاز له استماعها، و إن حرم عليه التكلم بما حرم عليه استماعها كانت الأخبار دليلا على التحريم، لكن هذا خلاف ظاهر الرواية على تقدير قراءتها (مغتابَينِ) بصيغة التثنية، نعم لو قرأناها (مغتابِينَ) بصيغة الجمع كان الخبر ظاهرا في الثاني. و لو قلنا بجواز استماع ما يحل للمتكلم التكلم به من الغيبة، فهل يجوز استماع ما يشك السامع في حلّيته للمتكلم أو لا؟، وجهان ينشئان من حمل فعل المسلم و قوله على الصحة، و من إطلاق دليل حرمة الاستماع.

خامسها: يجب رد الغيبة

لظواهر الأخبار المتكثرة التي منها ما رواه أبو زرعة عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من اغتيب عنده أخوه المؤمن و هو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا و الآخرة) (1)، و مثله ما روي عن الصادق (عليه السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) (2)، و منها ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من رد عن أخيه غيبة يسمعها في مجلس رد الله


1- المتقي الهندي، كنز العمال، 3/ 415.
2- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 4/ 372.

ص: 188

عنه ألف باب من الشر في الدنيا و الآخرة، فإن هو لم يردَّها و هو قادر على ردها و أعجبه، كان عليه كوزر من اغتابه) (1)، و منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها ردها عنه، رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا و الآخرة، فإن هو لم يردَّها و هو قادر على ردها، كان عليه كوزر من اغتاب سبعين مرة) (2)، و الظاهر أن زيادة الوزر في عدم الرد تنشأ من اجتراء المغتاب على غيبة المستغاب المذكور مع عدم الرد على غيبة غيره، أو يراد من عدم الرد الرضا بالغيبة فيزداد وزره لعدم اكتراثه بالدين و رضاه بانتهاك حرمة أخيه المؤمن كما يشعر بذلك قوله (و أعجبه)، كما أن الظاهر أن المراد من الرد غير النهي عن الغيبة، بل المراد منه دفع النقص الذي يعتري أخاه المؤمن، كأن يقول في ما لو كان المذكور عيبا دنيويا ليس العيب إلا ما عابه الله، و جل من لا عيب فيه، و إن كان عيبا دينيا يحمله على الصحة إن أمكن، و مع عدم الإمكان يقول: قد يبتلى المؤمن بالمعصية، فينبغي أن يستغفر له و يهتم له إلى غير ذلك مما يكون رادّا للغيبة و دافعا لنقصها المتعلق بأخيه المؤمن. و ربما ظهر من بعض الأصحاب كون الرد هو النهي عن الغيبة و فيه ما لا يخفى.

سادسها: الظاهر أن الغيبة تتضمن حق الناس فيتوقف دفعها على إسقاط المستغاب و إبرائه،

أما الأول فلقوله (عليه السلام): (من حق المؤمن على المؤمن ألا يغتابه) (3)، و إن حرمة عرض المسلم كحرمة دمه و ماله؛ و لأن الغيبة ظلم للمستغاب و اجتراء عليه و هتك لحرمته، و أما الثاني فلاستصحاب بقاء ذلك الحق إلى أن يحصل الإسقاط و الإبراء، و للخبر (إن الغيبة لا تُغفر حتى يَغفر صاحبها) (4)، و لقول النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (إن أحدكم ليدَعُ من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة، و يُقضى له و عليه) (5)، و النبوي (من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحلَّها


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 607.
2- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، 430.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 71/ 232، و الخبر ليس بهذا اللفظ.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 8/ 598.
5- المصدر نفسه، 8/ 550.

ص: 189

من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم، فيؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته) (1)، و النبوي أيضاً (من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة إلا أن يغفر له صاحبه) (2)، و روى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم):

(إن كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كما ذكرته) (3).

و لو جمع شرائط الحجّية أمكن جعل الاستغفار طريقا ثانياً للبراءة مع احتمال إرادة كون الاستغفار كفارة المذنب، نظير كفارة قتل الخطأ، اللهم إلا أن يُدّعى ظهور الخبر في كون الاستغفار مبرئ من دون إبراء و تحليل، و هو بعيد. و ربما جمع بعض الأصحاب بين الأخبار بحمل خبر الاستغفار على من لم تبلغه الغيبة، و حمل أخبار الاستبراء على من بلغته، و أُلحق بمن لم تبلغه من تعذر الوصول إليه لموته أو لبعده، و أيّد ذلك بأن الاستبراء مثير للضغائن و الشحناء، و هو كما ترى، لأن خبر الاستغفار إن جمع شرائط الحجّية كان الاستغفار طريقا لرفع الغيبة مطلقا، و إن لم يكن جامعا لشرائط الحجّية لم يحصل ارتفاع الغيبة إلا بالتحليل و الإبراء، و تعذّرُ الاستبراء و حصول المفسدة فيه لا يستلزم وجود مبرئ آخر، و روى السكوني أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): من ظلم أحدا فغابه فليستغفر الله له؛ فإنه كفارة له) (4)، و هي مما تؤيد الخبر السابق، فجعْلُه طريقا آخر مما لا بأس به.

نعم روى بعض أصحابنا مرسلا عن الصادق (عليه السلام): (إنك إن اغتبت فبلغ المغتابَ فاستحِلّ منه، و إن لم يبلغه فاستغفر الله) (5)، و هي تقضي بوجوب الاستحلال مع بلوغ المغتاب، فإن صحت كانت مؤيدة للتفصيل المتقدم.


1- المصدر نفسه، 8/ 550.
2- المصدر نفسه، 72/ 258.
3- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3/ 377.
4- الشيخ الكليني، الكافي، 2/ 334.
5- الإمام جعفر الصادق، مصباح الشريعة، 205.

ص: 190

و الحق أن الأخبارَ الدالة على ثبوت حق المستغاب على المستغيب نظير الحقوق المالية بحيث تجب البراءة منه غيرُ نقية السند، و على تقدير صحة سندها فهي غير واضحة الدلالة لاشتمالها على عدة حقوق لا يجب البراءة منها، فأصالة البراءة من الاستحلال و الاستغفار له محكّمة. نعم لو كانت الأدلة الدالة على ثبوت الحق المذكور واضحة السند صريحة الدلالة كان التمسك بأصالة بقاء الحق إلى أن يحصل التحليل أو الإبراء وجيه. و من هنا قال في الجواهر (و الظاهر أنها كحدود الله و إن كانت متعلقة بالناس، فيكفي فيها التوبة و لا يحتاج إلى التحليل من المغتاب، و الخبر السابق مطّرح لعدم جمعه لشرائط الحجّية في السند و غيره، و لمعارضته بالنبوي الآخر كما ستسمع، فلا يصلح معارضا لما دل على إجزاء التوبة عن العاصي و إن الله يغفر عن العبد بها جميع المعاصي، و التعلق بالناس أعم من كونه كالمال الثابت بقاؤه في الذمة المتوقف فراغ الذمة منه على الإبراء و نحوه بدليل خاص، كما أن ما ورد عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) من أن كفارة الاغتياب الاستغفار له (1) محمول على ضرب من الاستحباب دون الفرض و الإيجاب؛ و لذا لم يذكروه في الكفارات، فمن الغريب عمل بعض الناس به مع عدم صلاحيته لإثبات الوجوب من وجوه إلا أنه مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه) (2).

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (السحر))
اشارة

و الكلام في حكمه و في موضوعه:

أما حكمه فيحرم عمل السحر بلا خلاف بين المسلمين،

بل هو من الضروريات التي يدخل منكرها في زمرة الكافرين، و الكتاب و السنة شاهدان على ذلك، أما الكتاب فقوله تعالى: (مٰا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (3)،


1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3/ 377.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام 22/ 72.
3- يونس، 81.

ص: 191

و قوله تعالى: (وَ لٰا يُفْلِحُ السّٰاحِرُ حَيْثُ أَتىٰ) (1)، و قوله تعالى: (وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ) (2).

و أما السنة فقد تواترت أو تضافرت في ذلك، فمنها خبر السكوني عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): ساحر المسلمين يُقتل و ساحر الكفار لا يُقتل، قيل: يا رسول الله لِمَ لا يُقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الشرك أعظم من السحر؛ و لأن الشرك و السحر مقرونان) (3)، و منها خبر أبي البختري المروي عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمد (عليه السلام): (إن علياً (عليه السلام) قال: من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر، و كان آخر عهده بربه، وحده أن يُقتل إلا أن يتوب) (4)، و الظاهر أن التعلم للعمل كما هو المعروف في التعلم، فإذا كان لذلك فيدل الخبر على حرمة العمل كما لا يخفى. و منها قوله (عليه السلام): (الساحر كالكافر) (5)، فإن المراد من الساحر العامل، و منها قوله (عليه السلام): (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، و مدمن سحر، و قاطع رحم) (6).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على تحريم عمله، بل هو من الضروريات، فلو استحله مسلم قتل لصيرورته مرتداً بإنكار ضروري من ضروريات الدين إن كان إسلامه فطرياً بحيث لا تُقبل توبته، حيث انعقدت من مسلم نطفته، و بنيت على الإسلام فطرته، و غير الفطري إن تاب و عاد قتل في الثالثة أو الرابعة، و لو استحله كافر فلا قتل عليه، و ظاهر الآية و الأخبار كفر الساحر بفعله إن كان مسلما و إن لم


1- طه، 69.
2- بقرة، 102.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 7/ 260.
4- الحميري القمي، قرب الإسناد، 152.
5- خطب الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، 1/ 129.
6- الشيخ الصدوق، الخصال، 179.

ص: 192

يكن مستحلا، و حيث يتعذر العمل بظاهرها لمعلومية حصر أسباب الكفر في غيره، فالمراد المشاركة للكافر في الحكم، و هو وجوب القتل بمجرد فعل الساحر بسبب إظهاره ما لا ينبغي صدوره إلا من الله تعالى فأُطلق عليه اسم الكفر و الشرك باعتبار المشاركة في الحكم، و هو وجوب القتل بمجرد الفعل، و نسب إلى الأكثر تقييد القتل بالاستحلال، و لعلهم يريدون مجرد الفعل، و إن أمكن حمل كلامهم على ذلك فلا كلام، و إلا فإن تم اجماع اتُّبع، و إلا فالأدلة مطلقة، و اعتبار بعض الأصحاب الإصرار على العمل في وجوب القتل استظهارا لذلك من الأخبار كما ترى، و لعله استظهر ذلك من لفظ (مدمن) في الخبر المتقدم، و هو كما ترى.

و كيف كان فالذي يقوى في النظر قتل الساحر إن كان مسلما بمجرد فعله و إن لم يكن مستحلًا، بل و إن لم يصرَّ على فعله و يؤيده ما سيأتي في الكهانة؛ لظاهر قوله تعالى: (وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ) (1)، و دعوى أن ذلك خاص بتلك الملة يرده أن ظاهر نقله في القرآن أن حكمه باق إلى الآن، و إطلاق الكفر على عامله يقتضي ثبوت حكمه له و هو وجوب القتل، هذا مضافاً إلى الأخبار المتكثّرة المارة، و إلى الأخبار الواردة في الكهانة، و تقييد وجوب القتل بالاستحلال لا يناسب عظمة ذنب الساحر، و إطلاق الكفر و الشرك عليه؛ لأن ذلك حكم أكثر المعاصي الصغار فضلا عن الكبار. و من هنا ظهر لك ما في كلام بعض المتأخرين حيث يقول (و أما غير المستحل فقد يظهر من جماعة عدم القتل به خلافا لبعض، فجعله حدا له مطلقاً، و لعله لإطلاق الأدلة، و لا يخلو من توقف) (2)، و ظاهر الأدلة المتقدمة أن فعله من المحرمات النفسية لا باعتبار ما يترتب عليه من الأحوال و الغايات على نحو ما في المحرمات النفسية، فهو محرم و إن كان لبعض الأمور المباحة. هذا كله في حكم عمله.


1- بقرة، 102.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 86.

ص: 193

و أما تعلُّمه و تعليمه فالظاهر أنهما متلازمان حكما كما لا يخفى مع اتحاد الغاية المقصودة لهما، و لو اختلفت الغاية المقصودة كان لكلٍّ حكم ما قصد من الغاية.

و كيف كان فإن كان التعليم و التعلُّم لتحصيل مرتبة الفضل و التباعد عن حضيض الجهل، أو ليحذر الناس أو ليحذّر من عامله أو ليتجنب من أن يدخل في جملة فاعله، فالظاهر جوازهما وفاقا لجدي المرحوم في شرح القواعد (1)، و للفاضل المعاصر في الجواهر (2)، بل عن تفسير الرازي أنه اتفق المحققون على ذلك (3)، قال بعض المتأخرين: (بل ربما يجب حيث يتوقف الفرق بين المعجز و السحر عليه) (4)، و ذلك لأصالة الإباحة و لأن العلم حسن في الذات داخل في عداد الكمالات، و الكراهة و التحريم في بعض الصناعات من قبيل الحياكة و الصياغة و الحجامة و نحوها إنما هو باعتبار العمل، و إلا فعلمها خير من جهلها (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (5).

و الحاصل أن التعلّم و التعليم لأنْ يكون عالما أو لتحذير نفسه و غيره من الوقوع في البلية من الأمور الراجحة، بل علم السحر لا يخلو منه الأنبياء، و أرباب المكاشفات من العلماء، بل و يدل على ذلك- مضافاً إلى ما ذكرناه من أن الأصلَ و حسن العلم في ذاته- نقلُ قصة الملَكين المعلّمَين (6) في القرآن (7) فإن ذلك دليل على حلّية التعلّم و التعليم، أما دلالتها على حلّية التعليم فواضحة، و أما دلالتها على حلّية التعلّم فلأنه لو لم يكن حلالًا لكان ذلك من الإعانة على الإثم.


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 58- 59.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 78.
3- الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، 1/ 448.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 79.
5- الزمر، 9.
6- في الأصل (المعملين).
7- بقرة، 102.

ص: 194

فإن قلت: إنهما يعلّمان من يعمل، فيكون من الإعانة على الإثم، قلت: عدم قصدهما الإعانة يدفع إشكال حرمتها، أو أنهما يعلمان العلم دون العمل، و العلم لا يستلزم معرفة العمل، أو أن ذلك جائز لهما بالخصوص لكون نزولهما فتنة و ابتلاء، و جميع ما ورد من لفظ الساحر و السحر و السحرة في الأدلة يراد به العملة، بل الظاهر أنه منصرف للعملة، و ما ورد في الأخبار من تحريم التعلّم، و إن حد المتعلم القتل يراد به التعلم بقصد العمل أو مع العمل؛ إذ القتل من حدود العامل دون العالم، مع أن الظاهر انصراف التعلّم إلى النحو المألوف من إرادة العمل.

قال بعض تلامذة جدي المرحوم: (يظهر من الأستاذ العلامة في شرحه جواز تعلم السحر لا للعمل، بل لمجرد المعرفة و الترفّع عن حضيض الجهل مع اعترافه بحرمة عمل السحر ذاتاً، و هو كالمستعرض في المقام؛ فإن تحريم العمل ذاتا يقتضي تحريم تعلّمه كذلك، على نحو تعلّم علم القمار و علم الغناء، بل العقل حاكم بقبح تعلّمها من غير ضرورة إليه، مع أن إطلاق ما دل على تحريم تعلّمها و تعليمها متناول لما إذا كان بقصد العمل و بدونه، و دعوى انصرافه إلى ما كان بقصد العمل في حيّز المنع)، انتهى. و فيه ما لا يخفى؛ لأن حرمة العمل ذاتا لا تقتضي سوى تحريم التعلّم للعمل، على أن ما ادّعاه من حرمة تعليم علم القمار و الغناء في حيّز المنع، و دعوى قبح التعلّم عقلا ممنوعة، بل التعلّم للعلم حسن كما عرفت، و أما انصراف الإطلاقات إلى التعلّم للعمل فمما لا كلام فيه كما عرفت، و ما يظهر من بعض أصحابنا من أن عمله مستلزم للمحرم من الكفر و نحوه ممنوعة أشد المنع.

و كيف كان فقد نسب إلى الشهيدين (1) اعلى مقامهما و غيرهما القول بجواز تعلم السحر ليُتوقى به و لدفع سحر المتنبي حيث نسب إليهما القول بوجوبه كفاية، و ناقشهما في ذلك بعض المتأخرين: (بأنه لا ضرورة في ما ذكروه من التوقّي لندرة تأثيره في إضرار العباد؛ فإنه لا يضر أحداً إلا بإذن الله تعالى، و لو تسلط الساحر بسحره لنَفى عنه الفقر و العدم و استجلب كل محبوب له في الدنيا، و البديهة حاكمة بخلافه، كما لا ضرورة في دفع سحر المتنبي لاستحالة ظهوره على يديه عقلا في مقام دعوى النبوة،


1- الشهيد الثاني، شرح اللمعة، 3/ 215؛ الشهيد الأول، الدروس، 3/ 164.

ص: 195

و ما لا يثبت إلا بالإعجاز)، و هو كما ترى؛ ضرورة تأثير السحر في أغلب المسحورين، و عدم ظهور السحر على يد الكاذب ممنوع، بل الممتنع ظهوره على يد الكاذب المعجزة دون السحر، على أنه يمكن أن يكون مستند الشهيدين و من تبعهما في هذه المقالة الأخبار المتكثّرة الدالة على جواز ذلك و إن لم يكن في ذلك ضرورة.

و كيف كان فقد استدل من جوّز عمل السحر للحل و الإبطال بعدة من الأخبار، منها أنه (دخل عيسى بن سيفي على أبي عبد الله (عليه السلام) و كان ساحراً يأتيه الناس و يأخذ على ذلك الأجر، فقال: جعلت فداك إني رجل كانت صناعتي السحر، و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت و منّ الله عليّ بلقائك و قد تبت إلى الله تعالى، فهل لي في شي ء من ذلك مخرج، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): حلّ و لا تعقد) (1)، و منها ما رواه الصدوق مرسلًا في العلل (إن توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد) (2)، و منها المروي عن العيون و تفسير الإمام (عليه السلام) في قوله: عز و جل: (وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) (3) إلى آخره، أنه (كان بعد نوح قد كثرت السحرة و المموّهون فبعث الله- سبحانه عز و جل- ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يرد كيدهم، فتلقّاه النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) (4) عن الملكين و أداه إلى عباد الله بأمر الله أن يقفوا به السحر و أن يبطلوه، و نهاهم عن أن يسحروا به) (5)، و منها المروي عن العيون أيضاً (و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 115.
2- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، 2/ 546.
3- بقرة، 102.
4- في المخطوطة ص و هو من خطأ الناسخ.
5- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، 2/ 241، تفسير الإمام

ص: 196

و يبطلوا به كيدهم) (1)، و منها خبر العلاء عن محمد بن مسلم (سألته عن المرأة يُعمل لها السحر يحلّونه عنها؟ قال: لا أرى بذلك بأساً) (2).

قال بعض أصحابنا المتأخرين (و هذه النصوص مع قصورها عما دل على الحرمة من وجوه محتمِلة للحل بغيره) (3)، أقول: كالمنقول من جملة كتب الفاضل و غيرها من جواز حله بالقرآن و الذكر و الأقسام و نحوها لا بشي ء منه. و من هنا نسب إلى الفاضل و ظاهر الأكثر المنع، فما في شرح القواعد من نسبة الجواز إلى كثير من الأصحاب مما لا وجه له.

و كيف كان فلعل المنع أقوى لإطلاق أدلته، و عدم قابلية هذه النصوص لتقييد تلك الإطلاقات، فلا بد من اطّراحها و عدم التعويل عليها، و أما حملها على الحل بغيره كما سمعت فلا تساعد عليه ظواهر النصوص المذكورة خصوصا خبر العيون (4). نعم يمكن حمل ما عداها على الحل بغير السحر كالقرآن و الذكر و الدعاء و التعويذ، و هما مع ضعفهما مخصوصان بتلك الشريعة، و شرعُ من قبلنا حجة ما لم يُعرف نسخه بما عرفت من الأدلة المطلقة مع أنهما معارضان بخبر الاحتجاج، قال فيه (عليه السلام): (إنهما- يعني الملكين- موضع البلاء و موقف فتنة، تسبيحهم: اليوم لو فعل الإنسان كذا و كذا لكان كذا، و لو يُعالج بكذا لصار كذا، أصناف السحر فيتعلمون منهما ما يخرج منهما، فيقولان إنما نحن فتنة، فلا تأخذوا عنا ما يضركم و لا ينفعكم) (5)، فعلم أن ما مال إليه المولى الأردبيلي من الجواز (6) للاقتصار في ما خالف الأصل على المتيقَّن بناءً على ضعف النصوص المثبتة للتحريم على الإطلاق و لا جابر لها من إجماع أو غيره مما لا وجه له؛ لانقطاع الأصل بالأخبار المستفيضة


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/ 245.
2- لم أعثر على أثر لهذه الرواية في ما تحت يدي من المصادر.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 77.
4- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/ 245.
5- الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، 2/ 82.
6- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة و البرهان، 8/ 79.

ص: 197

المعمول بها في باب الحدود المعتضدة بالإجماعات الشاملة معاقدها بإطلاقها لذلك، و قد سمعتها، و أخبار الحل مطّرحة أو مخصوصة بغير السحر. هذا كله في حكمه.

موضوعه

أما موضوعه فعن بعض أهل اللغة: إنه ما لطف مأخذه ودق (1)، و عن بعضهم إنه صرف الشي ء عن وجهه (2)، و عن بعضهم: إنه (3) الحق أخرج الباطل بصورة الحق، و عن بعضهم أنه (الخديعة) (4)، و لا يخفى أنه لا يمكن التعويل على كلام أهل اللغة في المقام للقطع بعدم إرادتهم في ذلك التعريف التام و الكشف عن حقيقة السحر، و إنما غرضهم في ذلك الكشف عنه في الجملة و تعريفه ببعض صفاته و لوازمه كما لا يخفى، و للقطع بعدم إرادة هذا المعنى من لفظ السحر الوارد في النصوص و الفتاوى و إن كان هو المعنى اللغوي، على أن كلام أهل اللغة لا يمكن إرجاعه إلى معنى واحد لشدة اختلافه، و الحكم بكونه مشتركا لفظيا يقتضي التوقف في ما اشتملت عليه النصوص و الفتاوى من لفظ السحر.

هذا و كلام الفقهاء في بيان الموضوع المذكور أشد اضطراباً من كلام أهل اللغة، و الحال أن كلامهم مخالف لكلام أهل اللغة في المقام، فما ندري أنهم يريدون بيان المعنى اللغوي أو بيان المعنى العرفي العام أو بيان المعنى المتشرّعي، و الظاهر من حال أهل كل اصطلاح في مقام البيان بيان ما هو مصطلح عندهم دون غيره من اللغوي و العرفي، و يؤيد ذلك ما عن البحار أنه (في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه، و يُتخيل على غير حقيقته، و يجري مجرى التمويه و الخداع) (5)، و ما في مجمع البحرين عن الإمام فخر الدين في تفسيره ما هذا لفظه (و لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه، و يُتخيل على غير حقيقته و يجري مجرى التمويه و الخداع) (6)،


1- الجوهري، الصحاح، 2/ 679.
2- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 2/ 346.
3- الكلمة هنا غير مقروءة.
4- الكلمة هنا غير مقروءة.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 56/ 277.
6- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 2/ 346.

ص: 198

و ظاهرهما أن للسحر معنى شرعيا، و هو أعم من جميع المعاني التي ستأتي، فإن لم يكن شرعيا فلا أقل من كونه معنى متشرّعياً. و كيف كان فلا إشكال على التقديرين.

و أما كلام الفقهاء فقد اضطرب غاية الاضطراب في بيان الموضوع المذكور. قال العلامة في القواعد أنه (كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة) (1)، و نحوه المحكي عن المنتهى (2) غير أنه اشتمل على زيادة (أو عقد) و هو داخل في قوله (أو يعمل شيئاً) فلا يكون بينهما فرق أصلا. نعم عن الشهيد في المسالك أنه (كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو أقسام أو عزائم، يحدث بسببها ضرر في بدن المسحور أو قلبه و عقله من دون مباشرة) (3)، و يدخل قوله (أو أقسام أو عزائم) في قوله (أو يعمل شيئاً) فيكون تعريف العلامة في القواعد أعم لشمول قوله (أو يعمل شيئاً) للنفث و الدخنة و غيرها.

هذا إن فسرنا التأثير في كلام العلامة بالضرر، و إن فسرناه بالأعم من الضرر كان أعم من تفسير الشهيد من هذا الوجه أيضاً. و عن الشهيد في الدروس أنه فسره بالكلام و الكتابة و الرقية و الدخنة بعقاقير الكواكب و تصفية النفس و التصوير و العُقد و النفث و الأقسام و العزائم بما لا يفهم معناه و يضر بالغير فعله (4)، و هو أعم من تفسير الشهيد بالمسالك باعتبار اشتماله على الدخنة بعقاقير الكواكب و تصفية النفس و التصوير و العُقد و النفث، و تفسير العلامة في القواعد أعم منه باعتبار اشتماله على قوله (أو يعمل شيئاً) و هو يعم المذكورات و غيرها إن جعلنا التأثير بمعنى الضرر، و إلا كان أعم من وجه آخر أيضاً. و عن الشهيد في الدروس أن (من السحر الاستخدام للملائكة و الجن و الاستنزال للشياطين في كشف الغائب و علاج


1- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 2/ 9.
2- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1014.
3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 128، باختلاف في الألفاظ.
4- الشهيد الأول، الدروس، 3/ 163.

ص: 199

المصاب و منه الاستحضار بتلبس الروح ببدن منفعل كالصبي و المرأة و كشف الغائب عن لسانه. و منه النيرنجيات و هي إظهار غرائب خواص الامتزاجات و أسرار النيّرين، و يلحق به الطلسمات، و هي تمزيج القوى العالية الفاعلية بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل الغرائب) (1)، و لا يخفى عليك أنه قد اعتبر الإضرار بالمسحور، و الظاهر أن المسحور في استخدام الملائكة و استنزال الشياطين هو الملائكة و الشياطين، و الإضرار بهم يحصل بتسخيرهم و تعجيزهم من المخالفة، و إلجائهم إلى الخدمة، و لكن يشكل عليه الحال في الحاق النيرنجيات و أسرار النيّرين و الطلسمات به؛ لأنه لا مسحور فضلا عن الإضرار به.

هذا و عن المنتهى (إن ما يقال من العزم على المصروع، و يزعم أنه يجمع الجن فيأمرها لتطيعه (فلا يدخل تحت هذا الحكم) فهو عندي باطل لا حقيقة له، و إنما هو من الخرافات) (2)، و عن المسالك أن الاستخدام من الكهانة و أنها غير السحر، قريبة منه (3)، و فسره في الإيضاح (بأنه استحداث الخوارق إما بمجرد التأثيرات النفسانية، و هو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيات فقط، و هو دعوة الكواكب و تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية، و هي الطلسمات، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة، و هي العزائم، و يدخل فيها النيرنجيات، و الكل حرام في شريعة الإسلام، و مستحلّه كافر) (4)، و تبعه على هذا التفسير في التنقيح (5)، و هذا التفسير أعم من التفاسير الأُوَل؛ لأنه لا يعتبر فيه مسحور فضلا عن الإضرار به، ثمّ قال في الإيضاح (أما ما كان على سبيل الاستعانة بخواص الأجسام السفلية فهو علم الخواص، أو الاستعانة بالنسب الرياضية فهو علم الحيل و جر الأثقال، و هذان ليسا من السحر) (6)،


1- الشهيد الأول، الدروس، 3/ 164.
2- العلامة الحلي، منتهى المطلب، 2/ 1014.
3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 128.
4- ابن العلامة، إيضاح الفوائد، 1/ 405.
5- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 56 ب.
6- ابن العلامة، إيضاح الفوائد، 1/ 405.

ص: 200

و فسره في التنقيح بأنه عمل يستفاد منه ملكة نفسانية يُقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية (1)، و هذا التعريف أعم من سابقه باعتبار اشتماله على علم الخواص و علم الحيل.

إلى غير ذلك من الاختلاف الشديد في كلامهم، فينبغي الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي أو المتشرّعي و هو الذي نقلناه عن العلامة المجلسي (2)، و الإمام الرازي (3)، كما سمعت، و عدم التعويل على غير ذلك، و لعل الأصحاب إنما تعرضوا للفرد الظاهر منه، فإن أمكن إرجاع كلا مهم إلى ما ذكرناه فلا كلام، و إلا فلا ينبغي التعويل عليه و الرجوع إليه. قال في شرح القواعد للشيخ (رحمه الله) حيث قال: (فالظاهر أنه لا يُرجع بعد هذا الاختلاف الشديد بحسب التحديد إلا إلى العرف العام على نحو ما مر في الغناء من الكلام، و محصوله أنه عبارة عن إيجاد شي ء تُرتّب عليه آثار غريبة و أحوال عجيبة بالنسبة إلى العادات بحيث تشبه الكرامات، و تُوهِم أنها من المعاجز المثبتة للنبوات من غير استناد إلى الشرعيات بحروز أو أسماء أو دعوات و نحوها من المأثورات، و أما ما أُخذ من الشرع كالعُوَذ و الهياكل و بعض الطلسمات فليست منه، بل هي بعيدة عنه، و كأنّ غرض الشارع المنع من التدليس و التلبيس في الأسباب على نحو منعه من التدليس في المسببات، و أن حدوث الأفعال من غير سبب بيِّن مخصوص برب العالمين) (4)، انتهى.

و فيه إن الرجوع إلى العرف العام إنما يكون مع فقْد المعنى الشرعي أو المتشرّعي، و أما مع ثبوت أحدهما فدعوى الرجوع إلى العرف العام ممنوعة، كما هو محرّر مقرّر في محله، و أما ما أشكله عليه بعض تلامذته من أنه لا يَرجع إلى محصّل، و أين العرف العام و تمييز جميع أقسام السحر الذي هو علم عظيم طويل الذكر كثير الشُّعب لا يعرفه


1- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 56 ب.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 56/ 277.
3- الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، 1/ 442.
4- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 60- 61.

ص: 201

إلا الماهرون فيه، و ليس مطلق الأمر الغريب سحراً؛ فإن كثيرا من العلوم كعلم الهيأة و الجفر و الزراجية، و هو أسرار الجفر و غيرها يظهر من العالم بها بعض الآثار العجيبة الغريبة، و يكفيك ما يصنعه الإفرنج في هذه الأزمنة من الغرائب، و ليست هي من السحر الحرام قطعا (1)، ففيه ما لا يخفى على المتأمل؛ ضرورة أن لهذا اللفظ في العرف العام معنى قطعا، فلفظه الوارد في النصوص يُحمل على ذلك المعنى، و ما لا يعرفه العرف العام منه يبقى على أصل الإباحة و الحِل، وليت شعري أ ترى أن الشيخ (رحمه الله) ادّعى (أن) (2) أهل العرف يعرفون جميع أقسام السحر حتى يُردّ عليه بما سمعت؟.

و كيف كان فقد اختلف أصحابنا (رحمهم الله) في أنه تخييل أو تحقيق، فذهب الأكثر كما في السرائر (3)، و المسالك (4)، و مذهب كثير كما عن الروضة (5)، و عن ظاهر صاحب الخرائج و الجرائح (6)، أنه إجماعي بين المسلمين أنه لا حقيقة له، و إنما هو تخييل بجميع أفراده، و في شرح القواعد لجدي (قُدّسَ سرُّه) (و الأقرب عنده أي عند الماتن و عند الأكثر منا و من المخالفين، و بعض نقل إجماع المسلمين أنه لا حقيقة له، و إنما هو بجميع أفراده تخييل لا تأثير فيه) (7)، و قد نسب ذلك للرازي (8)، و البيضاوي (9)، و الواحدي و الطبرسي (10)، و الشيخ (11)، (رحمهم الله) و فخر الإسلام


1- لم أعثر على صاحب النص.
2- إضافة يقتضيها السياق.
3- ابن إدريس الحلي، السرائر، 32/ 533.
4- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 128.
5- الشهيد الثاني، الروضة البهية، 3/ 215.
6- قطب الدين الراوندي، الخرائج و الجرائح، 3/ 1021.
7- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 61.
8- الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، 1/ 442.
9- البيضاوي، أنوار التنزيل (تفسير البيضاوي)، 1/ 55.
10- الطبرسي، مجمع البيان، 1/ 321.
11- الشيخ الطوسي، المبسوط، 7/ 260.

ص: 202

و ظاهر كلام ابن الأثير (1)، و ابن فارس و الجوهري (2)، و الفيومي (3)، و ذهب بعض أصحابنا (رحمهم الله) إلى أن له تأثيرا بجميع أفراده، و اختاره بعض المتأخرين من أصحابنا (رحمهم الله)، و فصّل آخرون فذهبوا إلى أن له تأثيراً في إحضار الجانّ فقط، و هو المنسوب للشهيد (4) (رحمه الله)، و فصّل آخرون فذهبوا إلى أن له تأثيراً في التفريق بين المرء و زوجه، و ذهب آخرون منهم الكركرالي أن له تأثيراً من جهة الوهم لا من جهة الحقيقة، و فصّل آخرون فذهبوا إلى أن له تأثيرا في دعوة الكواكب حتى أن المنقول عن فخر الإسلام أن النزاع في غير دعوة الكواكب، فإن الكواكب لا تأثير لها قطعا، و هل النزاع في المفعول المعدود سحراً؟ مثل عمل الحيات و إظهار الطيران و نحو ذلك أو في ترتب شي ء في بدن الإنسان و عقله و التفريق بين المرء و زوجه أو فيهما معاً، فعن ظاهر الإيضاح أن النزاع في الثاني حيث جعل مأخذ القولين قوله تعالى:

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ) (5)، و جعل مطمح نظر القولين ذلك (6). قال بعض المتأخرين (و قد يظهر ذلك من تعرضهم لذلك في باب الجنايات، و ليس في شي ء من ذلك دلالة على التخصيص)، انتهى.

ابراهيم التي قال لها (بَرْدا وَ سَلَامًا) (7)، فمحى تسبيبها الإحراق و جعلها مسببة للبرد لو لا أن يقول سلاماً لهلك إبراهيم من شدة بردها. و هذا و نحوه المراد من قوله تعالى: (يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ) (8)، و كقوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ


1- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 3/ 255.
2- الجوهري، الصحاح، 2/ 679.
3- الفيومي، المصباح المنير، 1/ 123.
4- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 128.
5- بقرة، 102.
6- ابن العلامة، إيضاح الفوائد، 1/ 406.
7- أنبياء، 69.
8- رعد، 39.

ص: 203

سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ) (1)، و يظهر من بعضها أنها تحقيق، منها قوله تعالى:

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ)، و قوله تعالى: (وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (2)، فإن الوصف بالعظمة يشعر بكونه تحقيقاً، و قوله في بعض الأخبار (حُلّ و لا تعقد) (3)، و هو ظاهر في التحقيق، و خبر الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) ظاهر في التخييل قال: (فيه أ فيقدر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب و الحمار و غير ذلك، قال: هو أعجز من ذلك و أضعف من أن يغير خلق الله تعالى، إن من أبطل ما ركبه الله تعالى و صوره فهو شريك الله في خلقه، تعالى عن ذلك علوا كبيراً) (4).

و الحق أنه ينقسم إلى القسمين كما يقضي به الخبر، قال (أخبرني عن السحر، ما أصله؟ و كيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه و ما يفعل؟ فقال (عليه السلام): إن السحر على وجوه شتى، وجه منها بمنزلة الطب، كما أن الأطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك علم السحر احتالوا لكل صحة آفة و لكل عافية عاهة و لكل معنى حيلة، و نوع آخر منه خفة و سرعة و مخاريق، و نوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين منهم، قال: فمن أين علم الشياطين؟

قال: من حيث عرف الأطباء الطب، بعضه تجربة و بعضه علاج) (5)، و مثله خبر العيون، قال: (في قوله (عز و جل): (السِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ) (6)، قال: بعد نوح قد كثرت السحرة و المموهون، فبعث الله ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يرد به كيدهم، فتلقّاه النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) (7)


1- طه، 66.
2- أعراف، 116.
3- الحميري القمي، قرب الإسناد، 52.
4- الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، 2/ 82.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 10/ 169، باختلاف قليل في الألفاظ.
6- بقرة، 102.
7- في المخطوطة (صلّى الله عليه و آله و سلم) و هو وهم من الناسخ.

ص: 204

عن الملكين و أدّاه إلى عباد الله (عز و جل) بأمر الله، و أمرهم أن يقفوا به على السحر و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به الناس، و هذا كما يدل على السم، ما هو؟ و على ما يدفع به غائلة السم- إلى أن قال- (وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ) ذلك السحر و إبطاله (حَتّٰى يَقُولٰا) للمتعلم (إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ) و امتحان للعباد ليطيعوا الله في ما يتعلمون من هذا، و يبطلوا به كيد السحرة و لا يسحروهم فلا تكفر باستعماله و طلب الإضرار به، و دعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك به تحيي و تميت و تفعل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإن ذلك كفر إلى أن قال (وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ) لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به و يضروا به فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم و لا ينفعهم) (1)، الحديث.

و لأن من تتبّع الطريق و السيَر علم أن له تأثيرات لا تنكر تستند إليه في بعض الأحيان، و يعلم تحقيقها في حق من لم يطّلع عليه، مع ما لَه من المؤيدات من الآيات و الروايات، على أنك قد عرفت أن من جملة أقسامه التسخير المشاهَد بالوجدان، و دعوى أن السحر ما أداه للجن من التخيّلات حتى أطاعوه يدفعها أن ظاهرهم كون السحر نفس هذا الأثر الغريب، إلا أن العقل حاكم بأنه لو كان حقيقة لم يمكّن الله تعالى الساحر منه في جميع ما أراد، و إلا لزم الفساد و اضمحلال أكثر العباد، و لم يحتج الملوك و الأمراء إلى وضع الجهاد، و اكتفى الأشقياء بجذب النساء و الأولاد إلى اللواط و الفجور، و اغتنوا بذلك عن الخِطبة و بذل المهور، و صدر من السحّار ما يصدر من القادر المختار مع أنه لا حادث من نفع أو ضرر إلا بقضاء و قدر.

و كيف كان فالظاهر أن منه ما هو تحقيق جزما، و لا حاجة في إثبات ذلك إلى الاستناد إلى ما روي من أن لبيد اليهودي سحر النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) فأثر فيه أثراً حقيقياً (2)، كما يظهر من الرواية حتى يدفع ذلك بظهور وضع الخبر و قصور سنده و قدرة النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) على الدفع بالدعاء و التعويذ و نحوهما، فلا يمكن أن يُصاب، و أن ذلك منافٍ للعصمة و أنه منافٍ للّطف الواجب؛ لأن المكلفين إذا رأوا العسكري (عليه السلام)، 473.


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/ 241.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 38/ 302- 303.

ص: 205

سلطان الساحر على النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) و تصرفه فيه اختلّت عقائدهم و لم يبق لهم اطمئنان و لا وثوق و لا اعتماد؛ لظهور نقصه حينئذ، و لتجويزهم حينئذ تسلط الساحر على عقله، فيصح قولهم (تَتَّبِعُونَ إِلّٰا رَجُلًا مَسْحُوراً)* (1)، و إن أمكن دفع بعضها فإنه ليس للنبي دفع كل ما يتمكن من دفعه، و إلا لما صدر عليه مرض و لا عرض، و إن دعوى منافاته للعصمة مع عدم المرض الغالب على العقل ممنوعة؛ لوضوح الدلالة السابقة في ذلك مضافاً إلى شهادة الوجدان، كما أن منه ما هو تخييل جزما؛ لوضوح ما سبق من الأدلة في ذلك، فحينئذ لا كلام في انقسامه إلى القسمين، و في اتصافه بكل من الوصفين سواء جعلنا النزاع في كل من الأمرين المتقدمين أو في أحدهما، و لكن لا ثمرة للنزاع المذكور شرعا كما صرح به بعض أصحابنا (رحمهم الله) لأنه لا إشكال في تحريمه و كفر مستحلّه و قتله مع الاستحلال أو مطلقاً على الوجهين كما عرفت، كما أنه لا كلام في ضمان الساحر كل ما يجنيه بسحره على نفس أو طرف من غير فرق في جريان جميع هذه الأحكام بين كونه تحقيقا أو تخييلًا، و دعوى- أن الأصحاب بنوا ثبوت القصاص على أن للسحر حقيقة في حيّز المنع كدعوى أن الثمرة فيه الإقرار بأنه قد قتل زيد السحرة، فإنه لا طريق لإثباته إلا بذلك، فإن كان له حقيقة قُيّد به، و إلا فلا- ممنوعة، و الله العالم.

الكهانة

و هي من أقسام السحر، و في المسالك أنها قريبة منه (2)، لكن في السحر ما يقتضي دخولها فيه. و كيف كان ففي الجواهر عن مختصر النهاية أنها تَعاطى الإخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان (3)، و في القواعد أن الكاهن (هو) الذي له رَئيّ من الجن يأتيه بالأخبار (4)، و عن الحكماء أن من النفوس ما تقوى على الاطّلاع على ما


1- إسراء، 47.
2- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 128.
3- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 89.
4- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 2/ 9، و ما بين المعقوفتين إضافة من القواعد.

ص: 206

سيكون من الأمور، فإن كانت خيّرة فاضلة فتلك نفوس الأنبياء و الأولياء، و إن كانت شريرة فهي نفوس الكهنة. و في شرح القواعد لجدي (قُدّس سِرُّه): (الكهانة ككتابة عمل يقتضي طاعة بعض الجان، و بالفتح صناعة) (1)، و على كل حال فعملها محرم في شريعتنا إجماعاً محصلًا و منقولًا، فعن الكفاية (لا أعرف خلافاً بينهم في تحريم الكهانة) (2)، و عن الرياض أن الدليل عليه (الإجماع المصرَّح به في كلام جماعة) (3)، و في محكي ظاهر مجمع البرهان نفي الخلاف في تحريم الأجرة (4)، و يدل عليه بعد الإجماع جملة من الأخبار، ففي خبر مستطرفات السرائر (من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب) (5)، و عطْف الكاهن على الساحر فيه لعله من باب عطف العام على الخاص، و في خبر الخصال (من تَكهن أو تُكهن له فقد برئ من دين محمد (صلّى الله عليه و آله و سلم)) (6).

و الظاهر أن الكاهن من يخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان أعم من أن يكون مستنده في ذلك إخبار بعض الجان، أو الاستدلال على ذلك بكلام من يسأله أو فعله أو حاله، فدعوى اختصاص الكاهن بالأول كما هو الظاهر من عبارة القواعد (7) لا يخلو من نوع تأمل، و إن كان المنقول عن محكي النهاية ربما يُشعر بذلك، حيث جعل الثاني مما يختص باسم العراف، قال فيه (و قد كان في العرب كهنة كشق و سطيح و غيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن و رئيا يلقي إليه الأخبار، و منهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام


1- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 64.
2- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 87.
3- السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، 1/ 503.
4- المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، 8/ 79.
5- ابن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر، 593.
6- الشيخ الصدوق، الخصال، 19.
7- العلامة الحلي، قواعد الأحكام، 3/ 9.

ص: 207

من يسأله أو فعله أو حاله، و هذا يختص باسم لعراف) (1)، و يمكن أن يُدّعى أن العبارة المذكورة تقتضي التعميم حيث قسم الكاهن إلى قسمين، و العراف قسْم من الكاهن.

و كيف كان فالكاهن من يخبر عن الكائنات في الزمن المستقبل، أما الإخبار عن الكائنات في الزمن الماضي أو الزمن الحال، فهل يدخل في الكهانة أو لا؟ لا استبعد الثاني، كما يقتضيه التأمل في كلام أهل اللغة و كلام الحكماء.

و كيف كان فالظاهر أن الكهانة هي اتباع بعض الجان بالتسبيب فلو فُرض اتباع الجان و إخباره بذلك من دون تسبيب فالظاهر أن ذلك ليس من الكهانة بل هو خارج عنها موضوعا، و لا فرق في الكهانة بين أن يكون الإخبار عن الغائبات على طريق البت أو على طريق التفؤّل، كما لا يخفى على من تأمل في كلام أهل اللغة.

فما في محكي المفاتيح- حيث قال فيه (من المعاصي المنصوص عليها الإخبار عن الغائبات على البت لغير نبي أو وصي، سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك- إلى أن قال- و إن كان الإخبار على سبيل التفاؤل من دون جزم فالظاهر جوازه؛ لأن أصل هذه العلوم حق، و لكن الإحاطة بها لا يتيسر لكل أحد، و الحكم بها لا يوافق المصلحة)- لا يخلو من نوع تأمل و إن أمكن أن يريد بأن إطلاق الأخبار ظاهر في البت دون الظن و التخمين، و الحاصل: هذا إذا كان المستند في الأخبار المذكورة ما ذكرناه، و أما لو كان المستند بعض العلوم النبوية كالجفر و الجامعة و نحوه فالظاهر أنه مما لا إشكال فيه و إن قال بعض أصحابنا (ينبغي التخفي به و عدم إظهاره؛ لأنه ربما يكون مثارا لقلة اعتقاد عوام الناس بالمعجزات، فيلزم من ذلك فتح باب على النبوّات) (2)، هذا كله في عمل الكهانة، و متى حرم عملها حرُم أخذ الأجرة عليها جزماً، لما مر غير مرة من أن الله (إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه) (3)، و غير ذلك.


1- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 4/ 214- 215.
2- لم أعثر على صاحب النص.
3- الدارقطني، سنن الدارقطني، 3/ 7.

ص: 208

أما تعلّمها و تعليمها، فإن كان للعمل فلا كلام في حرمتها، و لعله على ذلك يُنزّل ما في محكي عبارة إيضاح النافع (إن تعليمها و تعلّمها و استعمالها حرام في شرع الإسلام) و على أن التعلّم و التعليم بالعمل لا بغيره، و هو محرم أيضا بلا كلام، و أما تنزيل عبارة الإيضاح على العمل فهو خلاف الظاهر من جهة اشتمال العبارة على الاستعمال المشعر بإرادة غير العمل من التعلّم و التعليم، و إن لم يكونا للعمل فالظاهر عدم حرمتهما حيث يكونا لغير العمل، للأصل و انصراف الأدلة إلى العمل، و لا فرق في حرمة الكهانة و حرمة التكسب بها بين نسبة الإخبار إلى الجن و عدمه و الله أعلم.

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (القيافة))

و هي كما عن القاموس (1)، و الصحاح (2)، و المصباح المنير (3): معرفة الآثار، و القائف الذي يعرف الآثار و عن النهاية (4)، و مجمع البحرين (5) زيادة أنه (يعرف شبه الرجل بأخيه و أبيه)، و في المسالك أنها (الاستناد إلى علامات و مقادير يترتب عليها إلحاق بعض الناس ببعض) (6)، و كيف كان فإن حصل الجزم بها و ترتّب عليها محرم حرُمت و إلا كانت مكروهة.

أما الأول: فالظاهر أنه مما لا إشكال فيه، و نسبه في الحدائق (7) إلى الأصحاب، و عن الكفاية (لا أعرف فيه خلافاً) و في الجواهر (قلت: و كأنه لا خلاف في تحريمها، نحو الكهانة، بل لعلها فرد منها، فتندرج تحت ما دل على حرمتها مضافا إلى ما عن


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 3/ 188.
2- الجوهري، الصحاح، 4/ 1419.
3- الفيومي، المصباح المنير، 2/ 78.
4- ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 4/ 121، و العبارة الآتية لابن الأثير.
5- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 3/ 560.
6- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 129.
7- المحقق البحراني، الحدائق الناضرة، 18/ 182.

ص: 209

المنتهى و غيره من الإجماع صريحا أو ظاهرا على ذلك) (1)، انتهى. و لا يخلو من نظر فتبصر.

و يؤيد القول بالحرمة منافاتها كالضروري (2) من عدم التفات الشارع إلى هذه العلامات و الأمارات، و إن مداره في إثبات النسب على الإقرار و الولادة على الفراش و نحوهما مما جاء من الشرع حتى أنه ألحق الولد بالفراش بمجرد الوطي و لو في الدبر، و اختلاف الصور و الهيئات بين كثير من الأنبياء و الأوصياء و أولادهم فضلا عن غيرهم بحيث يُرى أن بعض أولا دهم أقرب إلى اللحوق بغيرهم، و لترتب الفساد العظيم على ذلك و لزوم الفضيحة على المسلمين و نقض أحكام مواريثهم و دياتهم و مناكحهم، إلى غير ذلك، فمن تتبع الآثار و نظر في سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أنكر ذلك أشد الإنكار، لكن مع جميع ذلك الحكمُ بحرمتها مع حصول كل واحد من الأمرين، و هو حصول الجزم بها و ترتب المحرم عليها و إن صرح بذلك في المسالك حيث قال: (و إنما يحرم إذا جزم به أو رُتب عليه محرما) (3)- لا يخلو من تأمل في الأول؛ لأن الاعتقاد بنسب شخص علما أو ظنا من دون ترتيب أمر من الأمور عليه لا دليل على تحريمه، و الأصل عدم حرمته، فالأولى تخصيص التحريم بما لو رتب عليه أمرا محرما كما هو المحكي عن السرائر و جامع المقاصد (4)، و التنقيح (5)، قال بعض المعاصرين (و قيد في الدروس و جامع المقاصد كما عن التنقيح حرمتها بما إذا ترتب عليها محرم، و الظاهر أنه أراد الكل) (6) انتهى. و هو حسن.


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 92.
2- الظاهر وجود عبارة ساقطة من الأصل.
3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 3/ 129.
4- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 33.
5- المقداد السيوري، التنقيح، ورقة 57 أ.
6- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 2/ 8.

ص: 210

و عن بعض المتأخرين أنه وسوس في أصل التحريم استنادا إلى خبر زكريا بن يحيى بن التيهان المصري أو الصيرفي قال: سمعت علي بن جعفر (عليه السلام) يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين (عليه السلام)، فقال: (و الله لقد نصر الله تعالى أبا الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له الحسن: إي و الله جعلت فداك لقد بغى عليه إخوته، فقال جعفر: إي و الله، و نحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك، و كيف صنعتم؟ فإني لم أحضركم، قال: فقال له إخوته: و نحن أيضا ما كان فينا إمام قط حائل اللون، فقال الرضا (عليه السلام): هو ابني، قالوا: فإن رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) قد قضى بالقيافة، فبيننا و بينك القيافة، فقالوا: ابعثوا أنتم إليهم، و أما أنا فلا، و لا تُعلموهم لما دعوتموهم إليه، و ليكونوا في بيوتكم، فلما جاءوا أقعدونا بالبستان و اصطف عمومته و إخوته و أخذوا الرضا (عليه السلام) و ألبسوه جبة صوف و قلنسوة منها و وضعوا على عنقه مسحاة، و قالوا: أدخل البستان كأنك تعمل فيه، ثمّ جاءوا بأبي جعفر (عليه السلام) فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا ليس له هاهنا أب، و لكنّ هذا عم أبيه و هذا عمه و هذه عمته، و إن لم يكن له أب هنا فهو صاحب البستان، فإن قدميه و قدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) قالوا هذا أبوه، قال علي بن جعفر فقمت فمصصت وجه أبي جعفر (عليه السلام) ثمّ قلت له: أشهد أنك إمامي عند الله عز و جل) (1)، حيث إن أبا الحسن (عليه السلام) أجابهم إلى حكم القيافة، و أقرهم على ما حكوه من قضاء رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) بذلك.

و هو كما ترى لعدم قابليته لمعارضة ما مر من الأدلة أولا، و لعدم دلالته على إجابتهم إلى ذلك، بل لعل قوله (عليه السلام): (ابعثوا أنتم إليهم، و أما أنا فلا)، مشعر بعدم المشروعية، و احتمال أن ذلك لدفع التهمة لا لعدم المشروعية بعيد، و لعل إجابتهم إلى ذلك لعمله بصدق القيافة هنا، فيكون ذلك استظهاراً عليهم، و لعلنا


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 92، و الخبر لعلي بن جعفر، مسائل علي بن جعفر، 322.

ص: 211

نستثني منها ما تقضي به الضرورة كإنكار نسب بعض المعصومين أو بعض المؤمنين، فتجوز حينئذ، كما يجوز ارتكاب بعض المحرمات لدفع بعض المحذورات، و إلا فكيف يتخيل من له أدنى خبرة و دراية بشريعة سيد المرسلين جواز الأخذ بها و العمل عليها على وجه تُرتب عليها المواريث و الأنكحة و نحوها وجودا و عدما؟، بل مشروعية اللعان أوضح شاهد على عدم اعتبار القيافة.

و أما الثاني: و هو الحكم بالكراهة مع تجردها عن الأمرين فتشعر به بعض الأخبار، ففي المحكي عن الخصال (ما أحب أن تأتيهم) (1)، و أفتى به بعض الأصحاب، و لكن لا كلام في أن معرفتها و الاطلاع على حقيقتها من الأمور الجائزة، لأن حالها كحال العلوم المباحة؛ لأنها لا تخرج عن مقتضى الأصل إلا بدليل، و أقصى ما دل على تحريمها بالنحو المذكور دون غيره، و القيافة في غير الإنسان إنما تحرم إذا ترتب عليها محرم، و أما تحريمها مع الجزم به، فقال جدي في شرح القواعد (2)، و فيه ما لا يخفى مما يُعلم مما تقدم و الله (أعلم) (3).

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (الشعبذة))

و هي الحركات السريعة التي تُرتب عليها الأفعال العجيبة بحيث يخفى على الحس الفرق بين الشي ء و شبهه لسرعة الانتقال فيه إلى شبهه فيحكم الرأي لها بخلاف الواقع، و هي محرمة بالإجماع محصّلا و منقولًا، بل نفى الخلاف في ذلك بعض المعاصرين مضافا إلى كونها من الباطل و من الإغراء بالجهل و التدليس، بل في شرح القواعد (و لما فيها من القبح الزائد على قبح الملاهي، و الاشتغال بها من أعظم اللهو) (4)، بل يظهر من بعض الأخبار أنها قسم من السحر، بل ربما تشتملها بعض تعاريفه.


1- الشيخ الصدوق، الخصال، 20.
2- يوجد سقط في العبارة لأنه لم يذكر نص شرح القواعد.
3- إضافة يقتضيها المقام.
4- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، شرح القواعد، 67.

ص: 212

و كيف كان فلا كلام في حرمة التكسب بها لما سمعت غير مرة (أن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه) (1).

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (القمار))
اشارة

و الكلام فيه في مقامين:

أحدهما: في حكمه، و الثاني: في موضوعه.

أما المقام الأول: و هو الكلام في حكمه،

فالظاهر أنه حرام إجماعا محصّلًا و منقولًا نقلا مستفيضا، و الكتاب و السنة دالان على ذلك أيضا، فالأدلة الثلاثة متفقة على حرمته، أما الإجماع فقد سمعت، و أما الكتاب فمنه قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (2)، ففي خبر أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ( (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) قال: أما الخمر فكل مسكر من الشراب- إلى أن قال- و أما الميسر فالنرد و الشطرنج، و كل قمار ميسر- إلى أن قال- فكل هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام و محرم) (3)، و في خبر زياد بن عيسى قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله- عز و جل- (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) (4) فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله، فنهاهم الله- عز و جل- عن ذلك) (5)، و في خبر عبد الحميد بن سعيد قال: (بعث أبو الحسن (عليه السلام) غلاماً يشتري له بيضا، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال له مولى له: إن فيه القمار، قال:


1- الدارقطني، سنن الدارقطني، 3/ 7.
2- مائدة، 90.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 239.
4- البقرة، 188.
5- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 122.

ص: 213

فدعا بطشت فقاءه) (1)، و في خبر الوشاء عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: الميسر هو القمار) (2)، و في خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لما أنزل الله على رسوله (صلّى الله عليه و آله و سلم) (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (3)، قال: يا رسول الله، ما الميسر؟

قال: كل ما تُقومر به حتى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها) (4)، و في خبر محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: (لا تصلح المقامرة و لا النهية) (5).

و في خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان ينهى عن الجوز يجي ء به الصبيان من القمار أن يؤكل، و قال: هو سحت) (6)، و في خبر إسحاق بن عمار (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز و البيض، و يقامرون، فقال: لا تأكل فإنه حرام) (7)، و في خبر أسباط بن سالم (قال:

كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاءه رجل، فقال: أخبرني عن قول الله عز و جل (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) (8)، قال:

نهى عن القمار، و كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله، فنهاهم الله عن ذلك) (9)، و في ما روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 123.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 124.
3- مائدة، 90.
4- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 123.
5- الشيخ الكليني، الكافي 5/ 123.
6- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 123.
7- المصدر نفسه، 5/ 124.
8- البقرة، 188.
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 76/ 234.

ص: 214

قال: سمعته يقول: (الميسر هو القمار) (1)، و في المروي عنه (عليه السلام) قال سمعته يقول: (إن الشطرنج و النرد و أربعة عشر و كل ما قومر (عليه) منها فهو ميسر) (2)، و في المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله- عز و جل- (آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) (3)، قال: (ذلك القمار) (4)، إلى غير دلك من الأخبار الدالة على الحكم المذكور، فالحكم بحمد الله من الواضحات.

و أما المقام الثاني: و هو الكلام في موضوعه،

ففي الجواهر، (قيل: إن أصل القمار الرهن على اللعب بشي ء من الآلة، كما هو ظاهر القاموس و النهاية (5)، أو صريحهما و صريح مجمع البحرين (6)) (7). نعم، عن ظاهر الصحاح (8)، و المصباح المنير (9)، و كذلك التكملة و الذيل أنه قد يطلق على اللعب بها مطلقا مع الرهن و دونه، و قال بعض المتأخرين (و هو بكسر القاف- كما عن بعض أهل اللغة- الرهن على اللعب بشي ء من الآلات المعروفة، و حكي عن جماعة أنه قد يطلق على اللعب بهذه الأشياء مطلقا و لو من دون رهن و به صرح في جامع المقاصد (10)، و عن بعض: أن أصل المقامرة المغالبة) (11)، انتهى.


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 124.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 120- 121، و ما بين المعقوفتين إضافة من الوسائل.
3- بقرة، 188.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 121.
5- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 2/ 121، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 4/ 107.
6- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 109.
7- الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، 7/ 547.
8- الجوهري، الصحاح، 2/ 799.
9- الفيومي، المصباح المنير، 2/ 76.
10- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 24.
11- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 371.

ص: 215

و على كل حال فلا شك و لا إشكال في حرمة اللعب بآلات القمار المعروفة مع الرهن، لأنه من موضوع القمار يقيناً. فكل ما دل على حرمة القمار يدل على حرمته من إجماع و كتاب و سنة، كما سمعت، بل لا إشكال في حرمة العوض المأخوذ بذلك، لأنه من الباطل كما صرحت بذلك جماعة من الأخبار المتقدمة، و لا كلام في حرمة المال المأخوذ بالباطل كما هو مدلول الآية، و لما في خبر عبد الحميد من أن أبا الحسن (عليه السلام) قد تقيأه (1).

و الظاهر أن المنشأ في حرمته و إن كان الاستدلال بذلك لا يخلو من نوع تأمل، و لما في خبر السكوني من النهي عن أكل ما يجي ء به الصبيان من القمار، و قوله (عليه السلام) فيه (و هو سحت) (2)، و لما في خبر إسحاق بن عمار من قوله (عليه السلام): (لا تأكل فإنه حرام) (3)، إلى غير ذلك من الأخبار القاضية بذلك، المعتضد ما فيها من القصور سنداً و دلالة بالإجماع، فحرمة اللعب بالآلات المعروفة للقمار مع الرهن و حرمة المال المأخوذ بذلك مما لا كلام و لا إشكال فيها، و إنما الإشكال في حرمة اللعب بآلات القمار المعروفة بدون الرهن لما سمعت من أخذ الرهن في مفهوم القمار، فصدْقُ القمار على ذلك محل نظر، و قصارى ما في كلام أهل اللغة و بعض أساطين الأصحاب أنه قد يطلق على اللعب بهذه الأشياء مطلقاً مع الرهن و بدونه (4)، و الإطلاق أعم من الحقيقة، فلا يوجب الإطلاق المذكور إجراء أحكام المطلقات في الأخبار عليه حتى لو بني على أصالة الحقيقة في الإطلاق و الاستعمال، لما هو المعلوم من انصراف المطلقات إلى الفرد الغالب المتعارف، و لا شك أن الفرد الغالب المتعارف للقمار هو اللعب بتلك الآلات مع الرهن.


1- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 123.
2- المصدر نفسه، 5/ 123.
3- المصدر نفسه، 5/ 124.
4- المحقق الكركي، جامع المقاصد، 4/ 24.

ص: 216

نعم يمكن الاستدلال على ذلك ببعض الأخبار التي منها رواية أبي الربيع الشامي في الشطرنج و النرد (قال: لا تقربوهما، قلت: فالغناء، قال: لا خير فيه، لا تقربه) (1)، و منها رواية تحف العقول، من أن ما يجي ء منه الفساد محضا لا يجوز التقلب فيه من جميع وجوه الحركات (2)، و منها رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الأَنصَابُ وَ الأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (3) قال: أما الخمر فكل مسكر من الشراب- إلى أن قال- و أما الميسر فالنرد و الشطرنج، و كل قمار ميسر إلى أن قال فكل هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام محرم) (4)، و المراد من القمار هنا نفس الآلات دون المعنى المصدري، فلا يقال أنه ينصرف إلى الغالب كما مر بقرينة قوله:

(بيعه و شراؤه)، و قوله: (و أما الميسر فهو النرد)، و منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الميسر من أن (كل ما ألهى عن ذكر الله فهو الميسر) (5)، و منها رواية الفضيل قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الأشياء التي تلعب بها الناس من النرد و الشطرنج حتى انتهيت إلى السدر، قال: إذا ميز الله الحق من الباطل مع أيهما يكون؟ قلت: مع الباطل، قال: فما لك و الباطل؟) (6)، و منها موثقة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الشطرنج و لعبة شبيب التي يقال لها لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث، فقال:

أ رأيت إذا ميز الله بن الحق و الباطل مع أيهما يكون؟ قال: مع الباطل، قال: فلا خير فيه) (7)، و منها رواية عبد الواحد بن المختار عن اللعب بالشطرنج، قال: (إن المؤمن لمشغول عن اللعب) (8)، إلى غير ذلك من الأخبار.


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 239.
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 336.
3- مائدة، 90.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 239 240.
5- المصدر نفسه، 17/ 316، طبعة آل البيت.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 242.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 238.
8- الشيخ الصدوق، الخصال، 26.

ص: 217

فإن التأمل في هذه الأخبار يقتضي الحكم بتحريم اللعب بالآلات المعروفة للقمار و إن لم يكن رهنا و إن قلنا بدخول الرهن في القمار، و الله أعلم.

هذا كله إذا كان اللعب بآلات القمار المعروفة له، أما إذا كان بغير آلاته المعروفة له و إن كان مع الرهن، فالظاهر الحرمة و فساد الرهن كالمراهنة على حمل الحجر الثقيل و على المصارعة و الطيور و الطفرة و نحوها، بل هو من القمار على ما نُقل عن البعض من أن أصل المقامرة المغالبة، و على تقدير أنه غيره، فالدليل على الحرمة و الفساد نفي الخلاف فيهما في المحكي عن مصابيح الطباطبائي (رحمه الله) و قول الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم): إن الملائكة لتحضر الرهان في الخف و الحافر و الريش، و ما سوى ذلك قمار حرام) (1)، و ما رواه العلاء بن سيابة عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (إن الملائكة لتنظر عند الرهان و تلعن صاحبه ما عدا الحافر و الريش و النصل) (2).

إلى غير ذلك من الأخبار المجبورة سنداً أو دلالة، ففي الخلاف (و مع ذلك لا ينبغي التوقف في الحكم) و مع ذلك كله فالعجب من شيخ الجواهر حيث منع من حرمة ذلك، قال: (أما إذا لم يعتد المقامرة به فالظاهر عدم حرمته مع عدم الرهان للأصل و انصراف أدلة المقام إلى غيره، و السيرة القطعية من الأعوام و العلماء في المغالبة بالأبدان و غيرها، و قد روي مغالبة الحسن و الحسين (عليهما السلام) بحض من النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) (3)، بل و مع الرهان أيضا و إن حرم هو، لأنه أكْلُ مال بالباطل


1- الحر العاملي، الفصول المهمة، 2/ 312.
2- الحر العاملي، الفصول المهمة، 2/ 312.
3- أحمد الطبري، ذخائر العقبى، 134.

ص: 218

دونه، لما عرفت مما لا معارض له، و دعوى أنه من اللعب و اللهو المشغول عنهما المؤمن يدفعه منع كونه من اللعب المحرم؛ إذ لا عموم بل و لا إطلاق على وجه يصلح لشمول ذلك و نحوه، خصوصا بعد ملاحظة ما عرفته من السيرة المستقيمة، بل لعله مندرج في ما دل على مداعبة المؤمنين و مزاحهم، بل لو أخذ الرهن الذي فرض لهذا القسم بعنوان الوفاء بالوعد الذي هو نذر لا كفارة له و مع طيب النفس من الباذل لا بعنوان (أن) (1) المقامرة المزبورة أوجبته و ألزمته، و إنها كغيرها من العقود المشروعة أمكن القول بجوازه. نعم هو مشكل في القسم الأول و إنْ فُرض الحال فيه أيضاً (2) بناءً على حرمة كل ما يترتب على المحرم و لو جزاءً أو عدا و نحوهما، كما أشرنا إليه في السابق و قلنا إن في خبر تحف العقول (3) نوع إيماء إليه و إن كان لا يخلو من بحث) (4)

انتهى.

و فيه ما لا يخفى و ذلك لأن الأصل مقطوع بما سمعت من الأدلة، و أما السيرة المدّعاة فهي في محل الفرض ممنوعة أشد المنع، بل يمكن دعوى السيرة على الإنكار على ذلك من العوام و العلماء، و أما دعوى اندراجه فيما دل على مداعبة المؤمنين و مزاحهم فممنوعة بدعوى انصراف الأدلة إلى غير الفرض، و على تقدير شمولها لذلك، فلا بد من تقييدها بما سمعت من الأدلة الدالة على التحريم، و أما ما ذكره أخيراً من إمكان القول بجواز أخذ الرهن بعنوان الوفاء بالعهد فمما لا نعقل له معنى، لأن العهد الذي تضمنه العقد الفاسد لا معنى لاستحباب الوفاء به؛ إذ لا يستحب ترتيب آثار الملك على ما لم يحصل فيه سبب الملك، اللهم إلا أن يراد بالوفاء هنا إيجاد سبب الملك بعد الغلبة في اللعب فيكون تمليكا جديداً، و هذا مع كونه ليس وفاءً بالعهد الذي تضمنه العقد الفاسد يمكن جريانه في القمار المحرم حذو النعل بالنعل، قصارى الأمر أن الفرق بينهما استحباب الوفاء بالعهد هنا


1- إضافة يقتضيها السياق.
2- العبارة هنا غير مستقيمة.
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 336.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 109.

ص: 219

و عدم استحباب الوفاء بالعهد في القمار المحرم، و الاستحباب و عدمه لا دخل له في حِل المال المبذول و الكلام فيه فتبصّر.

هذا كله إذا كان اللعب بغير آلته المعروفة له مع الرهن، أما لو كان كذلك بغير رهن فالمنقول عن ظاهر المسالك الميل إلى الجواز (1)، و عن صاحب الكفاية أنه استجوده (2)، و قد سمعت عبارة الجواهر المتقدمة الصريحة في الجواز، و مستند القول بالجواز بعد الأصل السيرة و مغالبة الحسن و الحسين (عليهما السلام) بمحضر من النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) (3)، كما سمعت ذلك من الجواهر، و الأقوى التحريم، و هو المنسوب إلى الأكثر في المحكي عن الرياض (4)، بل عن جماعة حكاية الإجماع، و في محكي عبارة التذكرة (لا تجوز المسابقة على المصارعة (لا) بعوض و لا بغير عوض عند علمائنا أجمع؛ لعموم النهي إلا في الثلاثة: (الخف، و الحافر، و النصل) (5)، و في محكي عبارة التذكرة أيضاً في مقام آخر (لا تجوز المسابقة على رمي الحجارة باليد و المقلاع و المنجنيق سواء كان بعوض أو غير عوض عند علمائنا) (6)، و في محكيها أيضا في مقام آخر (لا يجوز المسابقة على المراكب و السفن و الطيارات و (الزبازب) عند علمائنا) (7)، و قال في محكي عبائر التذكرة أيضاً (لا تجوز المسابقة على مناطحة الغنم و مهارشة الديك (لا) بعوض و لا بغير عوض) (8)، قال (و كذا لا يجوز المسابقة على ما لا ينفع في الحرب)، وعد في ما مثّل به اللعب (بالخاتم و الصولجان و رمي البنادق و الجلاهق و الوقوف على رجل واحدة و معرفة ما في اليد من الزوج و الفرد


1- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 14/ 176.
2- المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، 136- 137.
3- أحمد الطبري، ذخائر العقبى، 134.
4- السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، 1/ 504.
5- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 2/ 354.
6- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 2/ 354.
7- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 2/ 354، و ما بين المعقوفتين إضافة من التذكرة.
8- المصدر نفسه، 2/ 354.

ص: 220

و سائر الملاعب، و كذا اللبث في الماء) (1)، قال: (و جوّزه بعض الشافعية، و ليس بجيد) (2)، انتهى.

و يدل على التحريم بعد ما سمعت من الإجماع عموم (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) (3)، و هو الذي أشار إليه العلامة (رحمه الله) بعموم النهي (4)، و يمكن المناقشة في ذلك بأنا إن فرضنا (السبق) في الخبر محرّك الباء كما عن المسالك أنه المشهور في الرواية (5) لم يكن في الخبر دلالة على التحريم؛ لأن (السبق) بالتحريك العوض، فلا يدل إلا على تحريم المراهنة، على أنه قد يمكن منع دلالته على تحريم المراهنة أيضاً، بل قصارى ما يدل على فساد المراهنة، و هو الأظهر على التحريك، لأن نفي العوض ظاهر في نفي استحقاقه، و إرادة نفي جواز العقد عليه بعيدة، فلا دلالة في الخبر على التحريك إلا على فساد المراهنة، و إن فرضنا السكون في الخبر لم يكن فيه دلالة على التحريم أيضا بل قد تكون دلالته على الفساد أظهر، لأن نفي كل من الجواز و الصحة محتمل بعد تعذّر حمل النفي على الحقيقة، و لا شك أن نفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة و أظهر من مثل هذه التراكيب كما لا يخفى على من تأمل، فينزَّل الخبر على الغالب من اشتمال المسابقة على العوض. و كيف كان فالاستدلال على التحريم لا يخلو من تأمل.

و ربما استدل بعض المتأخرين على ذلك بأدلة القمار بناء على أنه مطلق المغالبة و لو بدون العوض، قال: (كما يدل عليه ما تقدم من إطلاق الرواية (6) بكون اللعب بالنرد و الشطرنج بدون العوض قماراً، و دعوى أنه يشترط في صدق القمار أحد الأمرين، إما كون المغالبة بالآلات المعدة للقمار و إن لم يكن عوض، و إما المغالبة مع


1- المصدر نفسه، 2/ 354.
2- المصدر نفسه، 2/ 354.
3- علي بن الجعد، مسند ابن الجعد، 405.
4- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 2/ 354.
5- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 6/ 69- 70.
6- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، 6/ 69- 70.

ص: 221

العوض و إن لم يكن بالآلات المعدة للقمار- على ما يشهد به إطلاقه في رواية الرهان بالخف و الحافر- في غاية البعد، بل الأظهر أنه مطلق المغالبة، و يشهد له أن إطلاق آلة القمار موقوف على عدم دخول الآلة في مفهوم القمار كما في سائر الآلات المضافة إلى الأعمال، فالآلة غير مأخوذة في المفهوم، و قد عرفت أن العوض غير مأخوذ فيه فتأمل) (1)، انتهى. و فيه ما لا يخفى من أن معرفة المعنى اللغوي إما أن تكون بالنص من أهل اللغة أو بالتبادر العرفي مع ضميمة عدم النقل.

و الظاهر أن كل واحد من الأمرين المذكورين مفقود في المقام، و القدر المتيقَّن من كلام أهل اللغة و المتبادر منه هو اللعب بالآلات المعروفة له مع الرهن، و إطلاق القمار على اللعب بالنرد و الشطرنج من دون عوض لا يقتضي كونه معنى حقيقياً للقمار، كما أن الإطلاق في قولهم آلة القمار لا يقتضي ذلك، و دعوى أن الآلة غير مأخوذة في المفهوم مطلقا ممنوع، و كونها- غير مأخوذة في معنى اللفظ في هذا التركيب و هو آلة القمار- لا يقتضي كونه معنى حقيقيا للفظ فتأمل. و عن سيد الرياض (أنه استدل على التحريم هنا بما دل على حرمة اللهو) (2)، و فيه أن ذلك لا يتم مطلقاً، لأنه قد يتعلق بهذا الفعل في بعض المقامات غرض صحيح فيخرج بذلك عن صدق اللهو فيُحكم حينئذ عليه بعد عدم شمول أدلة اللهو له بالإباحة إلا أن يدّعى عدم القول بالفصل بين أفراد هذا الموضوع و هو في غاية الإشكال و الله أعلم.

و يمكن أن يستدل على ذلك بما دل من الأخبار على حرمة الشطرنج معللة بكونها من الباطل، و بما دل من الأخبار (على أن كل ما ألهى عن ذكر الله فهو الميسر) (3)، و بما دل من الأخبار على (أنا لا نستحب شيئاً من اللعب غير الرهان و الرمي) (4)، و المراد بالرهان رهان الفرس، و الجميع لا يخلو من تأمل، لو لا الإجماع المتقدم و الله أعلم.


1- الشيخ الأنصاري، المكاسب، 1/ 382.
2- السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، 2/ 41، باختلاف في اللفظ.
3- الشيخ الطوسي، الأمالي، 336.
4- علي بن جعفر، مسائل علي بن جعفر، 162.

ص: 222

و كيف كان فلا يجوز عمل آلات القمار سواء قصد بذلك الجهة المحرمة أو المحللة للتوصّل بها إلى الحرام و للفساد العام، لظاهر الإجماع و الأخبار، و لا تدخل صورتها في ملك المسلم، و أما المادة فالأقوى ملكيتها، و يجب إتلافها على المتمكن منه من المكلفين وجوبا كفائياً، و لا تضمن المادة لو توقف إتلاف الصورة على إتلافها، و مع عدم التوقف وجهان، وجهٌ: عدم الضمان ليس بالبعيد، و حيث عرفت حرمة مال المقامرة فيجب رده على مالكه مع التمكن منه إذا عرفه بعينه، و إلا فإن كان مشتبها في محصورين وجب التخلص منه بالصلح، و احتمال القرعة ليس بالبعيد، و إن كان مشتبها في غير محصورين كان حكمه حكم مجهول المالك، و لا فرق في ذلك بين مقامرة الأطفال و غيرهم.

و لو أكل من مال المقامرة شيئا ضمنه سواء أكله عالما أو جاهلًا، لأنه إتلاف له، و لا يجب عليه استفراغه، لأنه بعد الأكل لا يدخل في الملك باعتبار كونه من الخبائث، و بعد الخروج عن الملك لا معنى للحكم باستفراغه، و على تقدير بقائه في الملك فالظاهر عدم الوجوب أيضاً، لأنه بعد الأكل يكون مضمونا على الآكل بمثله أو قيمته فيدخل في ملك الآكل، و إلا كان المالك جامعاً بين العوض و المعوّض، و في الجواهر (و هل يجب استفراغه؟ وجهان، أقواهما العدم؛ لصيرورته حينئذ من الخبائث التي لا تدخل في الملك) (1)، انتهى. و لعل الوجه الآخر منشؤه ما في المروي عن أبي الحسن (عليه السلام) في الخبر المتقدم (من أنه أكَل شيئا من مال المقامر من غير علم، فلما علم به قاءه) (2)، و هو مع كونه منافيا للعصمة التي هي الطهارة من الرجس لا يدل على الوجوب كما لا يخفى، و الظاهر حمل الخبر المزبور على تقدير صحته على المبالغة في حرمة مال المقامرة.

و كيف كان فعلى القول بوجوب قي ء الطعام المغصوب يشكل الصوم ممن في بطنه طعام مغصوب يتمكن من قيئه كما ذكر مفصّلا في فروع الصوم، و في المروي


1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 110.
2- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 123.

ص: 223

عن الصادق (عليه السلام): (بيع الشطرنج حرام و أكل ثمنه سحت و اتخاذها كفر و اللعب بها شرك و السلام على اللاهي بها معصية، و الخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير، و لا صلاة له حتى يغسلها كما يغسلها من لحم الخنزير، و الناظر إليه كالناظر إلى فرج أمه، و الناظر و المسلّم على اللاهي بها سواء معه في الاثم، و الجالس على اللعب بها يتبوّأ مقعده من النار و مجلسها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله يتوقعونه في كل ساعة فيعمك معهم) (1)، و هو محمول على المبالغة في الحرمة؛ إذ لا ريب في عدم كفر متخذها و شرك اللاعب بها و عدم حرمة السلام على اللاهي بها و عدم وجوب غسل اليد من مباشرتها و عدم حرمة النظر إليها.

نعم يمكن القول بحرمة الجلوس على اللعب بها و حضور ذلك المجلس ما لم يكن الجلوس للرد أو للضرورة أو نحوهما، بل يمكن القول بذلك في الجلوس في جميع مجالس المنكر إذا كان الجلوس فيها للتنزه و نحوه و إن لم يكن من اللاعبين بها، إلا أنه يندرج في اسم اللاهين بها و اللاعبين بها و إن لم يكن لاعبا و لاهيا حقيقة، خصوصا في مثل حضور مجالس الرقص و الطبل و الغناء التي لا يشك أهل الشرع و العرف في تبعية حاضريها في الاثم لأهلها، بل هم أهلها في الحقيقة، و لو أن الناس تركوا حضور هذه المجالس لم يكن اللاهي و اللاعب يفعل تلك الأمور لنفسه.

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (الغش))

و الكلام فيه في مقامين:

الأول: في حكمه، و هو حرام بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع محصّلا و منقولا عليه، و في الجواهر (بل العقل حاكم بقبحه باعتبار ما فيه من الإغراء المترتّب عليه الفساد) (2)، انتهى. و النصوص بذلك مستفيضة، بل يمكن دعوى تواترها معنى، منها النبوي المروي بطرق عديدة (ليس من المسلمين من غشهم) (3)، و عن رواية


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 76/ 253.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، 22/ 112.
3- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 160.

ص: 224

العيون، قال رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلم) بأسانيد: (ليس منا من غش مسلماً أو ضره أو ماكره) (1)، و عن عقاب الأعمال عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم): (من غش مسلما في بيع أو شراء فليس منا، و يُحشر مع اليهود يوم القيامة؛ لأنه من غش الناس فليس بمسلم- إلى أن قال- و من غشنا فليس منا، قالها ثلاثاً، و من غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه، وسد عليه عيشه و وكله إلى نفسه) (2)، و عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لرجل يبيع الدقيق: (إياك و الغش؛ فإنه من غَش غُش في ماله فإن لم يكن له مال غُش في أهله) (3)، و عن أبي جعفر (عليه السلام) في رواية سعد الإسكاف (قال: مر النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً (و سأله عن سعره) فأوحى الله عز و جل إليه أن يدس يده في الطعام، ففعل فأخرج طعاماً ردياً، فقال لصاحبه: ما أراك إلا و قد جمعت خيانة و غشاً للمسلمين) (4)، و عن أبي الحسن (عليه السلام): (أنه أخذ ديناراً من الدنانير المصبوبة بين يديه فقطعها نصفين، ثمّ قال: ألقِه في البالوعة حتى لا يباع بشي ء فيه غش) (5)، و عن أبي الحسن (عليه السلام) (أنه مر على هشام بن الحكم و هو يبيع السامري في الظلال، فقال: يا هشام، إن البيع في الظلال غش و الغش لا يحل) (6).


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 1/ 32.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، 12/ 210.
3- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، 7/ 12.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، 22/ 86- 87، و ما بين المعقوفتين إضافة من البحار.
5- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 160.
6- الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 161.

ص: 225

المصادر و المراجع

1 القرآن الكريم.

2 تحف العقول عن آل الرسول، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، نشر المكتبة الحيدرية، النجف، تقديم العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، الطبعة الرابعة، مطبعة علاء، بغداد، 1979.

3 جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي توفي 1266 ه، نشر الشيخ علي الآخوندي، دار الكتب الإسلامية، النجف، الطبعة السادسة، مطبعة الآداب.

4 جامع المقاصد في شرح القواعد، علي بن الحسين الكركي، توفي 940 ه، تحقيق مؤسسة آل البيت، الطبعة الأولى، 1991، بيروت.

5 ماضي النجف و حاضرها، جعفر الشيخ باقر آل محبوبة، مطبعة النعمان، النجف، 1957.

6 أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، تحقيق حسن الأمين، مطبعة الإنصاف، بيروت، 1960.

7 الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد زين الدين بن علي الجبعي العاملي، توفي 965 ه، منشورات جامعة النجف الدينية، رقم 11، إشراف السيد محمد كلانتر، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1967، الطبعة الأولى.

8 مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، الشهيد زين الدين بن علي الجبعي العاملي، توفي 966 ه، تحقيق الشيخ حسن محمد آل قبيسي العاملي، مؤسسة البلاغ بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1993.

9 معارف الرجال في تراجم العلماء و الأدباء، الشيخ محمد حرز الدين، تعليق محمد حسين حرز الدين، مطبعة الآداب، النجف، 1965.

ص: 226

10 دعائم الإسلام و ذكر الحلال و الحرام و القضايا و الأحكام، أبو حنيفة النعمان بن محمد المغربي، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، مصر، 1960، القاهرة.

11 وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، توفي 1104 ه، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

12 مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، توفي 1085 ه، تحقيق السيد أحمد الحسيني، دار الكتب العلمية، مكتبة الوراق، النجف، مطبعة الآداب، الطبعة الأولى، 1386 ه.

13 السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، توفي سنة 458 ه، الطبعة الأولى، مطبعة دائرة المعارف، حيدرآباد كن، 1352 ه.

14 مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، السيد محمد الجواد بن محمد الموسوي العاملي.

15 قرب الاسناد، أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري، من رجال القرن الثالث و الرابع الهجري، الطبعة الأولى، نشر المطبعة الحيدرية، النجف، 1950.

16 الخلاف في الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الطبعة الثانية، مطبعة تابان، طهران، 1382 ه.

17 إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف المطهر الحلي، توفي سنة 771 ه، الطبعة الأولى، 1387 ه، المطبعة العلمية، قم.

34 الوسيلة إلى نيل الفضيلة، عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف بأبي حمزة، توفي 560 ه، تحقيق محمد الحسون، نشر مكتبة السيد المرعشي، سنة 1408 ه، الطبعة الأولى، مطبعة خيام، قم.

ص: 227

35 مختلف الشيعة، العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، توفي سنة 726 ه، تحقيق لجنة، نشر و طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1415 ه ..

36 المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، توفي سنة 1281 ه، تحقيق لجنة، الطبعة الأولى، 1415 ه، مطبعة باقري، قم.

37 من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه، توفي سنة 381 ه، تحقيق علي أكبر غفاري، نشر جامعة المدرسين، 1404 ه، الطبعة الثانية.

38 المختصر النافع في فقه الإمامية، أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي، توفي سنة 676 ه، نشر الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، قم، الطبعة الثالثة، طهران، 1410 ه ز.

39 إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، توفي سنة 726 ه، تحقيق الشيخ فارس الحسون، طبع و نشر جامعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1410 ه ز.

40 مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، توفي سنة 598 ه، تحقيق لجنة، طبع مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1411 ه.

41 تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، توفي سنة 726 ه، نشر المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

42 كشف الرموز في شرح المختصر النافع، الفاضل الآبي، توفي سنة 690 ه، تحقيق الإشتهاردي، نشر و طبع جامعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1410 ه.

ص: 228

43 نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، توفي سنة 726 ه، تحقيق السيد مهدي رجائي، نشر و طبع مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1410 ه.

44 منتهى المطلب، العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، مقابلة حسن بيش نماز، نشر حاج أحمد، تبريز، 1333 ه.

45 سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، توفي سنة 279 ه، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة دار الفكر، نشر دار الفكر بيروت، 1403 ه ز.

46 كشف اللثام، بهاء الدين محمد بن الحسن بن محمد الأصفهاني (الفاضل الهندي) توفي سنة 1137 ه سنة الطبع 1405 ه، نشر مكتبة المرعشي، قم.

47 الانتصار، الشريف المرتضى (علم الهدى) علي بن الحسين الموسوي، توفي سنة 436 ه، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415 ه، نشر مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة الدرسين، قم.

48 مسائل الناصريات، الشريف المرتضى، تحقيق مركز البحوث و الدراسات العلمية، 1417 ه، مطبعة مؤسسة الهدى، نشر رابطة الثقافة و العلاقات الإسلامية، طهران.

49 المقنعة، الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البكري، توفي سنة 413 ه، تحقيق جامعة المدرسين، قم، 1410 ه، الطبعة الثانية نشر مؤسسة النشر الإسلامي.

50 المراسم العلوية في الأحكام النبوية، الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلار، توفي سنة 448 ه، تحقيق السيد محسن

ص: 229

الحسيني الأميني، نشر المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت، طبع مطبعة أمير، قم، 1414 ه.

51 تحرير الأحكام، العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر، نشر مؤسسة آل البيت، حجرية، مطبعة طوس، مشهد.

52 المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق محمد تقي الكشفي، نشر المكتبة المرتضوية، 1387 ه.

53 المقنع، الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي الصدوق، توفي 381 ه، تحقيق و نشر لجنة تابعة لمؤسسة الإمام الهادي، طبع مطبعة اعتماد، 1415 ه، قم.

54 الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني، توفي 1186 ه، تحقيق محمد تقي الإيرواني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.

55 غنية النزوع إلى علمي الأصول و الفروع، ابن زهرة الحلبي، توفي 585 ه، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، نشر مؤسسة الإمام الصادق، الطبعة الأولى، 1417 ه، مطبعة اعتماد، قم.

56 الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، توفي 329 ه تحقيق علي أكبر غفاري، مطبعة حيدري، نشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1367 ه.

57 بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، توفي 1111 ه، طبع و نشر مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1983، بيروت، لبنان.

58 المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، توفي 274 ه، تحقيق جلال الدين الحسيني، نشر دار الكتب الإسلامية.

ص: 230

59 عيون أخبار الرضا، الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق، تقديم و تعليق الشيخ حسين الأعلمي، نشر و طبع مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1984.

60 الصحاح تاج اللغة و صحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، توفي 393 ه، تحقيق أحمد بن عبد الغفور العطار، الطبعة الرابعة، 1407 ه، نشر و طبع دار العلم للملايين، بيروت.

61 القاموس المحيط، الشيخ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي، دار العلم للجميع، بيروت، لبنان، مع حاشية للشيخ نصر الهوريني.

62 مجمع الفائدة و البرهان، المحقق الأردبيلي، توفي 993 ه، تحقيق اشتهاردي، نشر جامعة المدرسين، 1404 ه، قم.

63 عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الأحسائي، توفي 880 ه تحقيق السيد المرعشي، مطبعة سيد الشهداء، قم، الطبعة الأولى، 1983.

64 كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال، علاء الدين علي المتقي الهندي، توفي 975 ه، تصحيح الشيخ بكري حياتي، مؤسسة الرسالة، 1989، بيروت.

65 سنن الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، توفي 255 ه، بعناية محمد أحمد دهمان، دمشق، 1349 ه.

66 أمالي السيد المرتضى، أبو القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين، الطبعة الأولى، 1907، ضبطه السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي، نشر مكتبة المرعشي، قم، 1403 ه.

ص: 231

67 النهاية في غريب الحديث و الأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، توفي 606 ه، تعليق أبو عبد الرحمة صلاح بن محمد بن عويضة، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1997.

68 الأمالي، الشيخ الصدوق، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، قم، الطبعة الأولى، 1417 ه.

69 الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار المعرفة للطباعة و النشر بيروت.

70 كشف الخفاء و مزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد العجلوني، توفي 1162 ه، الطبعة الثانية، 1408 ه، نشر دار الكتب العلمية.

71 رسائل الشهيد الثاني، نشر مكتبة بصيرتي، قم.

72 مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي، توفي 1320 ه، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1998، بيروت.

73 معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، توفي 381 ه، تصحيح علي أكبر الغفاري، نشر انتشارات إسلامي، 1379 ه.

74 مجمع الفائدة و البرهان فيشرح إرشاد الأذهان، المولى أحمد الأردبيلي، توفي 993، تصحيح مجتبى العراقي، قم، نشر جماعة المدرسين، 1403 ه.

75 تفسير القمي، أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي، من أعلام القرن الثالث و الرابع الهجري، تصحيح السيد طيب الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة و النشر، قم، ايران، الطبعة الثالثة، 1404 ه.

ص: 232

76 مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعلام القرن السادس الهجري، تحقيق لجنة من العلماء، نشر مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1995.

77 تفسير العياشي، أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي، توفي 320 ه، تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاتي، نشر و طبع المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

78 الخصال، للشيخ الصدوق، تعليق، علي أكبر الغفاري، نشر جماعة المدرسين، قم، 1403 ه.

79 مصباح الشريعة، المنسوب للإمام جعفر الصادق، نشر مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1980.

80 نهج البلاغة، كلام الإمام علي، شرح الأستاذ محمد عبدة، نشر و طبع دار الطباعة و النشر، بيروت.

81 علل الشرائع، الشيخ الصدوق، نشر المكتبة الحيدرية و مطبعتها، النجف، 1966.

82 التفسير المنسوب للإمام العسكري، توفي 260 ه، تحقيق و نشر مدرسة الإمام المهدي، قم، الطبعة الأولى، 1409 ه.

83 الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، توفي 560 ه، تحقيق محمد باقر الخرسان، طبع و نشر دار النعمان.

84 الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأول، توفي 786 ه، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1414 ه.

85 إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، الشيخ أبو طالب محمد بن الحسن الحلي، توفي 771 ه، تعليق السيد حسين الكرماني، الطبعة الأولى، 1387 ه، المطبعة العلمية، قم.

ص: 233

86 الخرائج و الجرائح، قطب الدين الراوندي، توفي 573 ه، تحقيق و نشر مؤسسة الإمام المهدي، قم.

87 رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل، السيد علي الطباطبائي، توفي 1231 ه، مؤسسة آل البيت للطباعة و النشر، مطبعة الشهيد، قم، 1404 ه، حجرية.

88 ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، محب الدين أحمد ابن عبد الله الطبري، توفي 624 ه، نشر مكتبة القدسي، القاهرة، تاريخ الطبع 1356 ه.

89 شرح الشيخ جعفر على قواعد العلامة ابن المطهر، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، توفي 1228 ه، طبع و نشر مكتبة كاشف الغطاء، النجف، الطبعة الأولى، 1996.

90. شرح الروضة البهية، الشهيد الأول نشر جامعة النجف الدينية، تحقيق السيد محمد كلانتر، الطبعة الثانية.

91 نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، العلامة الحلي، توفي 739، نشر مؤسسة إسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1410 ه، تحقيق مهدي رجائي.

92 المهذب، القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، توفي 481 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران، 1406 ه، تقديم جعفر السبحاني.

93 لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، توفي 711، الطبعة الأولى، مطبعة دار إحياء التراث العربي.

94 نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر، الشيخ يحيى بن سعيد الحلي، تحقيق السيد أحمد الحسيني، مطبعة الآداب، النجف، 95. النافع في مختصر الشرائع، المحقق الحلي، ت طهران، 1334 ه طبع باعانة محمد باقر بن محمد زمان- هجرية.

ص: 234

96. ديوان الأعشى الكبير، شرح و تعليق د. م محمد حسين، مكتبة الآداب، القاهرة، المطبعة النموذجية، القاهرة.

97. أساس البلاغة، جار الله ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت 538، تحقيق عبد الرحيم محمود، القاهرة، ط 1، مطبعة اولاد أورفاند، 1653 م.

98. كشف الريبة عن احكام الغيبة، الشهيد الثاني، طبع الشيخ احمد شيرازي، 1319.

99. الوافي في شرح اصول الكافي، محمد بن مرتضى الكاشاني المعروف ب (محسن، هجرية، 1324 ه).

100. منية الراغب في شرح بغية الطالب، الشيخ موسى بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، مخطوط.

101. مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، الامام فخر الدين محمد بن عمر، نشر المطبعة الازهرية، ط 4، المطبعة الشرقية، 1308.

102. انوار التنزيل و أسرار التأويل، أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، ت 791 ه المطبعة المتحفية، مصطفى البابي الحلبي، مصر.

103. التنقيح الرائع في شرح المختصر النافع، المقداد بن عبد الله السيوري، نسخ اسماعيل بن زين الدين العاملي، سنة النسخ 1000 ه.

ص: 235

دليل الكتاب

الموضوع ..... الصفحة

المقدمة ..... 3

نبذة من حياة الشيخ مهدي الغطاء ..... 5

اسمه و نسبه ..... 5

ولادته ..... 5

مكانته ..... 5

أساتذته ..... 7

تلامذته ..... 7

آثاره ..... 7

مؤلفاته ..... 7

أولاده ..... 7

وفاته ..... 8

مقدمة المصنف ..... 8

كتاب التجارة/ التجارة لغة و مفهوماً ..... 9

أقسام التجارة ..... 11

الكلام فيما يكتسب به ..... 16

المبحث الأول: الانتفاع بالاعيان النجسة ..... 19

المبحث الثاني: تملّك ما يحرم التكسب به ..... 22

المبحث الخامس: في ثبوت حق الاختصاص في الاعيان النجسة ..... 24

المبحث السادس: في جواز التكسب بحق الاختصاص المذكور ..... 26

حرمة التكسب بالميتة و اجزائها ..... 30

التكسب بالدم ..... 39

التكسب بالمني ..... 41

الموضوع الصفحة

التكسب بالابوال و الارواث ..... 41

التكسب بالكلب و الخنزير البريين ..... 54

التكسب بالمرتد الفطري ..... 55

التكسب بالعصير العنبي ..... 57

المقام الاول: في الجامد ..... 59

المقام الثاني: في المائع ..... 60

المقام الثالث: في المائعات المتنجسة التي لا تقبل التطهير ..... 60

التكسب بآلات اللهو ..... 78

عمل آلات اللهو ..... 79

استعمال آلات اللهو ..... 80

اتلاف آلات اللهو ..... 81

التكسب بآلات اللهو ..... 82

بيع السلاح على أعداء الدين ..... 85

الإجارة و البيع للمحرمات ..... 87

مما لا يجوز التكسب به مما لا ينتفع به ..... 97

عمل الصور المجسمة الحيوانية ..... 99

مسألة التكسب بالغناء ..... 112

المقام الأول: في موضوعه ..... 112

تعريف الغناء عند الفقهاء ..... 114

المقام الثاني: في حكمه ..... 117

المقام الثالث: في المستثنيات ..... 125

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (معونة الظالمين)) ..... 138

النوح بالباطل ..... 145

الموضوع الصفحة

حفظ كتب الضلال ..... 149

بيان معنى كتب الضلال ..... 153

هجاء المؤمنين ..... 156

الغيبة ..... 161

الكلام في حرمة الغيبة ..... 167

كلام في مستثنيات الغيبة ..... 169

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (السحر)) ..... 190

موضوعه ..... 197

الكهانة ..... 205

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (القيافة)) ..... 208

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (الشعبذة)) ..... 211

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (القمار)) ..... 212

و من جملة ما يحرم التكسب به ( (الغش)) ..... 223

المصادر و المراجع ..... 225

دليل الكتاب ..... 235

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.